الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الوهاب دبيش: الجزائر والكذب على التاريخ

عبد الوهاب دبيش: الجزائر والكذب على التاريخ عبد الوهاب دبيش
حين نتحدث عن العلاقة بين الدولة الجزائرية وليدة استفتاء خامس يوليوز 1962، وبين التصور الذي اعطاه نظامها للتاريخ ولكيفية تدريسه، نصل إلى أن التاريخ عند هذه الدولة قد تحول من معرفة اكاديمية إلى أصل تجاري محصن، يمنع على غير الجزائريين أو حتى المواطنين الجزائريين المخالفين للنظام الخوض فيه تحت طائلة المتابعة القضائية او الخيانة للدولة الجزائرية.
لا يهم عند هؤلاء المتحكمين في الرقاب مثلا ان يكذبوا على انفسهم كما على غيرهم بالقول مثلا ان الثورة التي قادتها جبهة التحرير أدت ثمنًا باهظا في عدد الارواح الذين سقطوا جراء العمليات العسكرية التي حدثت بين فاتح نونبر 1954 وبين خامس بوليوز .1962
موضوع القتلى او الشهداء كما يسمونهم اشبع بحثا خارج الجزائر، واقصى ما وصل اليه البحث ان عدد الشهداء والقتلى بالجزائر في هذه المرحلة لا يتجاوز رقما يتراوح بين مئتين الى اربعمائة الف قتيل وشهيد، بين الذين ماتوا وهم ينتسبون إلى الحركة وبين قتلى الفرنسيين من الجنود والحركيين الذين سقطوا خلال حرب التحرير؛ لكن السؤال الجوهري هو من اين اتى الحكام الجزائريون برقم مليون ونصف مليون شهيد!؟؟
الحكاية وما فيها ان عبد الناصر وقد كان له دور محوري في مساعدة الجبهة، اراد ان يظهر بصورة زعيم الجزائر ان هذه الثورة "المجيدة "قد ادت ثمنا غاليا وصل حد المليون ونصف المليون شهيد؛ جاء هذا الكلام في زيارة عبد الناصر لوهران في بداية 1963اي في فترة تأهيل الجبهة للدخول مع المغرب في حرب غايتها الاطاحة بالنظام الملكي؛ وهي الحرب التي تمت في اكتوبر من نفس السنة وأسر خلالها حسني مبارك الذي سقطت طيارته واعتقل واعاده الحسن الثاني الى عبد الناصر في ما بعد؛ الأكذوبة حول الشهداء وعددهم تحولت الى قرآن لا يجب التشكيك في معطياته او مجرد مناقشة مضامينه وحيثياته!!
هذا المعطى دفع بالعديد من الباحثين بهذا البلد من فئة المؤرخين الى هجرة الجزائر او الابتعاد كليا عن دراسة التاريخ، ولجأوا الى علوم ومعارف اخرى بعيدا عن رقابة الدولة السبب الحقيقي في ذلك، ان الجزائر بنت لنفسها مجدا هلاميا غايته التأكيد على ان الدولة الجزائرية ليست وليدة اليوم لكنها دولة قديمة
نجحت الجزائر في جعل التاريخ ايديولوجية سياسية اكتسبت طابعا سياسيا وشعبويا مهما لكنها في نفس الوقت سجنت نفسها داخل هذه الايديولوجية التي ستكون سبب نهايتها الحتمية؛ غاية هذه الايديولوجية انها رسمت معالم دولة غير متجذرة في التاريخ؛ واتخذت لها مسار يخفي مظهرا أنثروبولوجيا هو اسطورة العنف الكامنة في نفوس الجزائريين
فالأرض الجزائرية تربة ولادة للعنف الذي اكتسبه المجال وقاطنيه من المحن التي عانى منها المجال منذ العصور القديمة إلى الآن، منذ الاحتلال الروماني والى غاية حركة جبهة التحرير، مرورا بالثورات الكبرى (ماسينسا يوغرطة الكاهنة الأخوين بارباروس وخير الدين وانتهاءا بالامير عبد القادر الى جبهة التحرير الوطني)! ان يكذب الجزائريون على التاريخ فلا يمثل شيئا امام غاية الحفاظ على المساحة الكبيرة التي صنعتها فرنسا جراء اقتطاع اراضي من بلدان الجوار وضمها لهم؛ وهذا سر احتفاظهم وترويجهم لفكرة الأراضي الموروثة عن الاستعمار الفرنسي في مواجهة جاريها تونس والمغرب دون الحديث عن ليبيا او النيجر او مالي!
اذن التاريخ والكذب عليه او تزويره لا يمثل شيئا امام حقيقة اخرى هي المساحة الجغرافية الموروثة عن الاحتلال؛ ولا يهم ايضا ان يكون المستوى الأكاديمي للباحثين في التاريخ وعلومه من الدرجة العاشرة في سلم المعايير المعتمدة عند الباحثين العالميين في التاريخ
إذن فكرة المساحة الكبيرة خلقت ايديولوجيا جديدة غايتها البحث عن الآليات التي تحافظ على هذه المساحة باستخدام التاريخ وتزويره وخلق اكاذيب؛ أو تاريخ تحت الطلب للتأكيد على الوحدة والتلاحم لشعب غير موجود، وهذه مهمة نجحت فيها أيديولوجيا وفشلت معرفيا تماما؛ عكس ما وقع في المغرب حيث اهملت الدولة التاريخ ونجح الأكاديميون فيه بنقش اسماء وازنة غلبت منطق الأكاديمي والمعرفي على الأيديولوجية.
 
يتبع