الاثنين 22 ديسمبر 2025
كتاب الرأي

عبد اللطيف رويان: الأحكام الجنائية بين زوال العقوبة ودوام الأثر

عبد اللطيف رويان: الأحكام الجنائية بين زوال العقوبة ودوام الأثر عبد اللطيف رويان
على تخوم العدالة الجنائية بالمغرب، وفي تلك المنطقة الرمادية التي تتقاطع فيها صرامة النصوص الزجرية مع تعقّد الواقع الاجتماعي، لا يبدو الحكم القضائي مجرد خاتمة تقنية لملف استوفى مساره المسطري، بل حدثًا صامتًا يعيد ترتيب العلاقة بين الفرد والدولة والمجتمع. فالحكم الجنائي، كما تُظهره الممارسة اليومية، لا يضع حدًا للجريمة بقدر ما يعيد شحنها بدلالات جديدة، ويمنح للعقوبة امتدادًا غير معلن خارج أسوار المحكمة والمؤسسة السجنية، لتتسلل آثارها إلى الزمن الاجتماعي، والذاكرة الجماعية، والهوية الفردية.
 
من منظور سوسيو-قانوني، لا يُختزل الحكم الجنائي في منطوقه ولا يُستنفد بتنفيذه. فرغم أن التشريع يشتغل بمنطق النهاية القانونية الواضحة—تنفيذ العقوبة، سقوطها بالتقادم، أو محوها بالعفو أو ردّ الاعتبار—إلا أن هذا الزمن القانوني القصير يصطدم، في الواقع، بزمن اجتماعي أطول وأكثر صلابة. ويتجلّى ذلك بوضوح عند لحظة الإفراج، حين يكتشف المعني بالأمر أن العقوبة انتهت رسميًا، لكنها ما تزال فاعلة اجتماعيًا.
 
واقعياً، لا يتعامل المجتمع في الغالب مع الحكم الجنائي باعتباره واقعة منتهية، بل يحوّله إلى قرينة دائمة على قابلية الانحراف، وإلى إطار تأويلي يُعاد من خلاله تقييم الشخص وسلوكه وعلاقاته وتموضعه الرمزي داخل الجماعة وقابليته للثقة الاجتماعية وخياراته اللاحقة... ويكفي في كثير من الأحيان أن يُشار إلى كون الشخص «من ذوي السوابق» حتى تُعاد قراءة حضوره في الحي، أو طلبه للشغل، أو سلوكه اليومي بمنطق الشبهة والاحتراز. وهنا تتجلى إحدى المفارقات العميقة للعدالة الجنائية: ما يعلن القانون انتهاءه، يعيد المجتمع إنتاجه في صيغ غير رسمية، لكنها أكثر قسوة ودوامًا.
 
في هذا السياق، يتحوّل الحكم الجنائي تدريجيًا من أداة ردع قانوني إلى آلية وصم اجتماعي فعلي. فالإدانة لا تُثبت فقط وقوع فعل مجرَّم، بل تعيد تعريف الفاعل ذاته داخل الحقل الاجتماعي. وبالنتيجة، يصبح الفرد «محكومًا سابقًا» قبل أن يكون مواطنًا كامل الحقوق، وتُختزل هويته في واقعة قضائية ما، مهما طال الزمن أو تغيّرت الظروف.
 
ويتجلّى هذا الوصم عمليًا في صعوبة الولوج إلى سوق الشغل النظامي، خاصة في القطاعات التي تشترط الإدلاء بالسجل العدلي او صحيفة السوابق، وفي تآكل شبكات الثقة داخل محيط القرب، بل وأحيانًا في توتر العلاقات الأسرية ذاتها. بهذا المعنى، لا يغدو الحكم مجرد منطوق قانوني قابل للانقضاء الزمني، بل يتحوّل إلى وصمٍ قانوني-اجتماعي يلتصق بالفرد ويمتد أثره إلى أدق دوائر الحياة الحميمية.
 
وتتفاقم حدة هذا الأثر في ظل ضعف سياسات الإدماج الاجتماعي والاقتصادي بعد الإفراج، وغياب مواكبة مؤسساتية فعّالة لما بعد العقوبة. فغالبًا ما يُطالَب الشخص المعني بإعادة الاندماج دون أن تُوفَّر له شروطه الموضوعية، سواء على مستوى التشغيل، أو التكوين، أو الدعم الاجتماعي... ثم يُستغرب لاحقًا من حالات العود، دون الاعتراف بأن الوصم ذاته يشكّل عاملًا بنيويًا في إعادة إنتاج الانحراف.
 
ومن زاوية سوسيو-قانونية أوسع، يؤدي الحكم الجنائي وظيفة مزدوجة لا تخلو من توتر: فهو من جهة يعيد تأكيد سلطة القاعدة القانونية وهيبة الدولة، ومن جهة أخرى يرسّخ تمثلات اجتماعية حول «المجرم» باعتباره آخرًا اجتماعيًا دائم الشبهة. ومن ثمّ، فإن دوام أثر الحكم لا يرتبط فقط بقصور النصوص أو الإجراءات، بل بطبيعة الدور الثقافي الذي تضطلع به العدالة الجنائية في تنظيم الخوف، ورسم حدود المقبول، وصياغة سرديات جماعية حول السواء والانحراف.
 
وتبرز هنا حدود الحلول القانونية التقليدية، وعلى رأسها ردّ الاعتبار كما ينظمه القانون المغربي. فرغم أهميته من حيث المبدأ، يظل ردّ الاعتبار معالجة تقنية للأثر القانوني للحكم، لا تفكيكًا للأثر الاجتماعي العميق له. فهو يمحو الإدانة من السجل العدلي، لكنه لا يمحوها من الذاكرة الجماعية، ولا يبدّد بسهولة الشكوك المتراكمة حول الشخص المعني. وبذلك، يظل ردّ الاعتبار خطوة ضرورية، لكنها غير كافية ما لم تُواكبها سياسات عمومية شاملة تعيد الاعتبار فعليًا للإنسان، لا للملف فقط.
 
في المحصلة، لا تموت الأحكام الجنائية بانقضاء العقوبة، لأن ما ينقضي هو الجزاء، لا الأثر. أما الحكم فيبقى كظلّ اجتماعي، وذاكرة مؤسسية تتقاطع فيها السلطة والمعيار والتمثّل. ومن ثمّ، فإن الرهان الحقيقي للعدالة الجنائية لا يكمن في دقة الإدانة وحدها، بل في قدرتها على ضبط آثارها البعيدة، حتى لا تتحوّل من أداة لتحقيق النظام إلى آلية لإدامة الإقصاء، ومن وعد بالإنصاف إلى عبء اجتماعي دائم على من قيل إن العدالة أنصفتهم بعد أن عاقبتهم.
 
 
د. عبد اللطيف رويان باحث في سوسيولوجيا القانون