الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

سعيد الناجي: وزارة الثقافة... الأصبع الصغير في الرجل اليسرى

سعيد الناجي: وزارة  الثقافة... الأصبع الصغير في الرجل اليسرى سعيد الناجي

يعجبني هذا التعبيرا لفرنسي الذكي المستعمل للتعبير عن شيء مهمل أو شخص أو قطاع لا تمنح له الأهمية: الأصبع االصغير في الرجل اليسرى.Le petit doigt du pied gauche . ويبدو هذا التعبير منطبقا على وزارة الثقافة بامتياز... لقد بقيت دائما أصبعا صغيرا في الرجل اليسرى للدولة وميزانيتها... وربما ليس في المغرب وحده...

ما تزال وزارة الثقافة تعيش على تراث حكومة التناوب، وعلى إنجازات وزير نبيه مثل محمد الأشعري... سواء في دعم المسرح أو في دعم الكتاب والموسيقى والأغنية وغيرها من القطاعات.. ما تزال مقترحات حكومة التناوب قائمة، وكل المقترحات الجديدة خرجت من جبة مشاريع حكومة التناوب. لم تتطور الأمور كثيرا، ولكن التطور مس الحاجيات الثقافية، وتعدد المتدخلين وتنوعهم والحاجة إلى المنتوج الثقافي ودوره كقوة ناعمة في تدبير ملفات كبرى داخلية وخارجية.

بعد حكومة التناوب، تقلدت الفنانة الراحلة ثريا جبران حقيبة وزارة الثقافة، وتسلحت بالكثير من الطيبوبة وحسن النية، ودبرت الوزارة بما استطاعت، ولكن لا الوقت ولا الصحة ولا  محيطها قد ساعدوها على إنجازات كبيرة؛ وكان أقصى ما قامت به الزياده من الغلاف المالي للدعم الموجه للقطاعات الثقافية وتوجيه الانتباه إلى الجانب الاجتماعي للفنانين والمثقفين.

وبعدها كانت عهدة الفيلسوف بنسالم حميش أقرب إلى إدارة أزمة من إدارة قطاع، ورغم صواب بعض مقترحاته لتغيير التدبير الثقافي والقطع مع الريع، إلا أن حدة مقترحاته وصرامتها المبالغ فيها لم تسعفه في  تحقيق أي شيء، خاصة وقد اصطدم مع  نخبة المسرحيين التي ساهمت في بلوكاج تاريخي للوزير، وحاكمت من خلاله أداء حزب الاتحاد الاشتراكي في تدبير وزارة  الثقافة رغم انها آنذاك إلى الآن ما تزال تستلهم تجربة الاتحاد الاشتراكي في إدارتها.

كأن ذلك البلوكاج كان يمهد لنقل تدبير الثقافة إلى حزب آخر، ولأن حكومة العدالة والتنمية كانت تدرك أنها لن تكسب وراء حقيبة الثقافة غير المشاكل والصدامات، تهيأ حزب التقدم والاشتراكية لتدبير القطاع بعد أن استطاع أن يضمن تناغما مع نقابة المسرحيين. وهكذا تم تدشين حقبة الوزير محمد الأمين الصبيحي، ا لذي استفادت وزارة الثاقفة من بروفايله الجامعي وتدبيره العقلاني، فكانت حقبته الأكثر انسجاما بعد حكومة التناوب، واستطاع أن يرفع من الغلاف المالي للدعم  في كل المجالات الثقافية، وينوع من مجالات تدخله، ويحفظ له التاريخ أنه اقترح في مجال المسرح صيغة "التوطين المسرحي" التي سمحت لفرق مسرحية عديدة بالتوفر على إمكانيات كبيرة لتدبير مشاريع مسرحية وليس إنتاج مسرحية فقط. وللأسف، لم تستطع التجربة أن تتطور لأن بنية الفرق المسرحية كانت وما تزال بسيطة ومتهالكة لأنها تعتمد تدبيرا كلاسيكيا يعتمد على العائلة أو على صداقات أكثر منها إدارة صارمة وفق مبادئ التسيير الإداري والمالي المتداولة عالميا. كما أن التجربة اصطدمت بمسؤولين على فضاءات ومسارح التوطين وقد نخر عددا منهم الكسل والبيروقراطية فأصبحوا عائقا أما تنشيط فضاءاتهم أكثر منهم  قوة اقتراحية وتشجيعية... وانتهت حقبة الصبيحي الوزارية بتوقيع إيجابي رغم كل شيء ولكنه لم يستطع تغيير بنية التعاطي مع الحاجيات الثقافية ولا مع تدبيرالإنتاج الثقافي ومؤسساته؛ واكتمل المشهد في نهاية حقبته بالتعرف على عدد كبير من فناني المسرح وهم يرفعون بطاقة الانخراطفي حزب الوزير أو يشاركون في حملاته الانتخابية؛ وهناك من رأى في ذلك استقطابا من الحزب لأعضاء جدد عبر وزارة لاثقافة فيما رأى آخرون أنه لا يمكن أن نصادر حق الفنان في الانتماء السياسي... المهم.. مريضنا ما عندو باس... لأن القادم أسوء

وفعلا... بلغنا الله إلى هذا "القادم الأسوء"

لقد تولى وزارة الثقافة في حكومة العدالة والتنمية الثانية وزراء من أحزاب يمينية أوصلت البلد سابقا إلى "السكتة القلبية" بتعبير راق من ملك البلاد المرحوم الحسن الثاني؛ ولناأن نتصور كيف سيتم تدبير الشأن الثقافي في ظل هذا تاريخها هذا.

هكذا، تولى حقيبة وزارة الثقافة أستاذ جامعي وبرلماني لسنوات طويلة، عن حزب الحركة الشعبية، محمد الأعرج، وكان تدبيره  في تقديري شبيها بما اعتاد عليه في تدبير الحملات الانتخابية للبرلمان من طرق تواصل وتدبير. لم يمتلك الرجل أدنى تصور عن قطاع الثقافة، ولا بحث عن الاستشارة، وبقي يخبط خبط عشواء، وتكاثرت على منصات التواصل الاجتماعي صور الوزير في مكتبه وهو يستقبل من يستقبل من الفاعلين، وعدد منهم كان يبحث عن امتياز؛ ولم يقع شيء غير أنه عند قرب انتهاء عهدته، أو قبيل تغييره، سيعمل على التقليص من مبالغ الدعم المسرحي.

وكنت قبل مدة طويلة قد كتبت عن "النخبة المسرحية" ومسؤوليتها التاريخية في الأزمة التي يعرفها القطاع، ولقد جددت  هذه النخبة "دورها التاريخي" في هذه اللحظة؛ إذ بدل طرح مسألة الدعم المسرحي بشكل جذري، وربطه بتأسيس صناعة مسرحية حقيقية تحرر المسرح من مزاجية الوزراء الشخصية؛ بدل ذلك انطلقت حملة "نضال" تاريخية من أجل الحفاظ على نفس مبالغ دعم المسرح السابقة؛ وبرزت ضمن هذا "النضال المريرأشكال من التمثيليات والتنسيقيات. وقد عمد الوزير في مخطط ذكي إلى تشجيع التمثيليات النقابية في قطاع المسرح والفنون خاصة، وبدأ يستقبل هذا وذاك، وأصبح المغرب هو البلد الذي يملك تجربة متواضعة من حيث بنيات الإنتاج المسرحي ولكنه البلد الذي يعرف أكبر عدد من النقابات  والتمثيليات المسرحية.هكذا  سحب البساط من النقابات الأكبر والأكثر تمثيلية، وتشكلت لجان تعتصم أمام أبواب وزارة الثقافة، وبرزت تمثيليات لمسرحيين استفادوا من برنامج دعم المسرح، وتمثيلية لمسرحيين لم يستفيدوا من الدعم، وتنسيقية للفرق المسرحية المستفيدة من دعم التوطين، وأخرى للفرق التي لم تستفد من التوطين،  وتنسيقية لمدراء المراكز الثقافية، وهكذا دواليك...  واستشرى الأمر إلى التعاضدية فبدأ الصراع حول الرئاسة  وانطلقت حروب البيانات والبينات المضادة، وتشكلت المكاتب في هذا المقهى أو ذاك الركن... كان المشهد عبثيا للغاية، ولكنه كان ماساويا حقيقية. وما كان من الوزير إلا أن قام بخطوة إعادة نفس المبالغ على ما أذكر أو شيء من هذا القبيل، وعاد "المناضلون" إلى أوكارهم منتصرين...

ثم جاء وزير آخر من حزب الاتحاد الدستوري هذه المرة، لم يعرف كيف يدبر قطاع الثقافة فقط، ولكن قدره كان مأساويا بتعيينه ناطقا باسم الحكومة؛ فالرجل -وهو أستاذ جامعي- كانت أخطاؤه اللغوية تسبقه للمنصات وحفلات الافتتاح، وبلغت ذروتها حين مست الجانب الديبلوماسي من خلال أخطاء في أسماء رؤساء دول أمام الرؤساء أنفسهم، أما لقاءاته الصحفية حول أشغال المجالس الحكومية فحدث ولا حرج... ولناأن نتصور كيف أصبحت وزارة الثقافة وقطاعاتها في ظل هذه الوضعية...

وتغير الوزير، وجاء وزير شاب متعلم، ولكن للأسف صادف مجيئه وباء كورونا... وأحس (مجرد إحساس) بنوع غير قليل من سوء النية أن الوزير كما الوزارة "فرحوا" لوباء كورونا، لأنه وباء أراح واستراح، وتم إغلاق قوس العمل الثقافي بسبب الأزمة الصحية، وترك الفنانون يواجهون مصيرهم الغامض، فلا كان أي برنامج لدعمهم، اللهم من برنامج شراء مسرحيات يتم تصويرها وبثها عبر السوشيال ميديا، لا أدري كيف كان مآله؛ ولكني عرفت أن عبثا كان في هذا البرنامج حيث طلبوا من الفرق تصوير المسرحيات في المدن التي يفترض أن تقدم فيها بدون جمهور طبعا، وبثها عبر الشبكات. وكان المشهد عبثيا للغاية، فلماذا ستتنقل فرقة مسرحية من فاس إلى طنجة مثلا لتصوير مسرحية تقدمها عبر الشبكات الرقمية...  كما كان برنامج لدعم الإنتاج الفني أثار من الصراعات أكثر مما أنتج من الأعمال، وبدا الفنانون، وخاصة أهل الموسيقى والغناء، يتبادلون العراك اللفظي... واحتج عدد من المسرحيين على استفادة المغنين من الدعم لأنهم "شبعانين فلوس" وهكذا دواليك في مثل هذه الصراعات ...

وحتى حين اعتدل معدل الإصابات بكورونا وتم التخفيف من القيود بقيت القيود على المسرح، ثم حين فتحوا الحمامات والمقاهي تركوا المسارح مغلقة، وحين نظموا الحملات الانتخابية تركوا  المسارح مغلقة...  وحين سمحوا بالسفر عبر القطارات والحافلات الضيقة تركوا المسراح مغلقة، وحين فتحوا الحدود لرحلات الطائرات تركوا المسارح مغلقة، وحين فتحوا قاعات الرياضة تركوا المسارح مغلقة، و حين بدأو التجمعات الانتخابية تركوا المسارح مغلقة... وحين فتحوامكاتب التصويت تركوا المسارح مغلقة   وها هم سيسمحون بعودة الجمهور إلى ملاعب الرياضة ويتركون المسارح مغلقة... فكيف لفنان يتوقف لمدة قاربت السنتين عن العمل والإبداع والترزق؟.

هذا تقييم شخصي لحقب في وزارة الثقافة عادت بالمسرح والثقافة المغربيين إلى المربع الأول، وهو تقييم شخصي اعتمد ما علق بالذاكرة، قد أكون سهوت  عن بعض جوانبه أو ما شابه، ولكنه تقييم عام، لا يروم  الحكم على الأشخاص.

الآن، ماذا سيقدم حزب الأحرار، الحزب المنتصر الجديد، لقطاع الثقافة، ومن سيحمل هذه الحقيبة؟ يبدو أن الحزب سيحافظ على هذه الحقيبة لنفسه، ذاك أن رئيس الحكومة الحالي وجه في حملته الانتخابية رسالة لفناني المسرح بمدينته أكادير واعترف بالوضع المأساوي للوضعية الاجتماعية للفنانين، وبغياب بنيات تحتية في مستوى المسرح المغربي، واستقطب قبلها  فنانين مسرحيين في حزبه ومنهم من فاز بمقعد في البرلمان، وهو أمر محمود خاصة أنه جاء قبل الانتخابات وليس بعدها. نأمل فقط أن يكون الوزير المقبل ببروفايل قادر على صناعة تصور للقطاع ولتغييره جذريا بعد تثمين التراكمات. وفي تدوينة نبيهة للصديق الفنان والجامعي أحمد بدري على الفايسبوك، وهو مؤسس المعهد العالي للفنون المسرحية وأول مدرائه، تكلم عن ضرورة تغيير نموذج وهيكل وزارة الثقافة الذي أسسناه في أعقاب استقلال البلد، على نموذج وزارة الثقافة الفرنسية؛ هو مطلب حقيقي وملح، حيث ينبغي اقتراح نموذج للعمل الثقافي يستجيب للتحولات الهائلة التي عرفتها ديمغرافية المغرب ونشاطه الثقافي مما برز مؤخرا في الإبدالات الجديدة للإقبال على العمل السياسي وعلى التصويت الانتخابي وعلى التواصل الرقمي في السياسة.

وفي النهاية لقد التزم رئيس الحكومة بعدد من الالتزامات بخصو ص قطاع الثقافة والفنون المسرحية... وهذه هي المرة الأولى في تاريخ العمل السياسي بالمغرب حيث يقدم حزب التزامات مستقبلية مسنودة بأرقام وإجراءات وليس وعودا انتخابية فقط... وهذا ما سمح له باكتساح الأصوات والمقاعد.. وهذه فرصة لإعادة الثقة للمغاربة في شيء اسمه المؤسسات التمثيلية للسكان...

فهل يستطيع رئيس الحكومة الحالي أن يجعل وزارة الثقافة الأصبع الكبير للرجل اليمنى للدولة؟