الأربعاء 8 مايو 2024
كتاب الرأي

عبد الإلاه حبيبي: تعنيف أستاذ.. حالة خاصة، أو علامة دالة على اختلال في مفهوم السلطة البيداغوجية للمدرس؟

عبد الإلاه حبيبي: تعنيف أستاذ.. حالة خاصة، أو علامة دالة على اختلال في مفهوم السلطة البيداغوجية للمدرس؟

مشهد أستاذ يعنف في محراب الدرس من لدن تلميذ في حالة هيجان قصوى وبالشكل الذي تمت به في شريط الفيديو يثير مباشرة مشاعر الإدانة والغضب والدعوة إلى تفعيل القانون لمعاقبة الجاني ومساءلة الحاضرين الذين لم يكن تدخلهم كافيا لصد الاعتداء، وتخليص المدرس من قبضة تلميذ تمادى بشكل هستيري في لكم المدرس وسحله وهو يشبعه ركلا ورفسا على مرآى من زملائه.. مشهد مقرف، مشين، فيه تمريغ صادح لكرامة رجل لم يقم حتى بحماية نفسه من اللكمات ورد الاعتداء بما يكفله القانون في مثل هذه الحالات. أي الدفاع الشرعي عن النفس..

الجميع في هذا المشهد مذنب، مشارك في الجريمة، مؤسس لها، الأستاذ الذي لم يكن رد فعله مناسبا لحجم الفعل الممارس عليه، حيث اكتفى بتجرع المذلة والإهانة مما شجع المعتدي على معاودة تعنيفه بشكل أكثر همجية، هذه السلبية غير المفهومة تثير كثيرا من الأسئلة، حول شخصية المدرس، وعلاقته بالواقع التربوي الذي يفترض أن يكون هو قائده والمتحكم فيه. ثم هناك التلاميذ الحاضرين الذين كانوا بشكل أو بآخر متواطئين، حركاتهم بطيئة، لم يستعملوا قوتهم البدنية بما يكفي لضبط المعتدي وسحبه خارج الفصل حتى يوفروا للأستاذ فرصة استرجاع وعيه واستعادة أنفاسه ليتخذ الموقف المناسب الذي يفترضه منطق اللحظة وتداعياته المستقبلية على حياته المهنية ككل. هذه الحالة المعزولة تقدم عناصر لتشخيص الجرم وتصنيفه قانونيا، وما يترتب عنه من إجراءات ينص عليه القانون الجنائي المغربي. لكن الحدث وقع في مؤسسة تعليمية، أي في مجال منظم بتشريعات ذات منحى تربوي، لهذا والحالة هذه، تظل المعالجة القانونية محدودة الأثر، ولو أنها نسقية الحضور عندما يصل خبرها أو صورها إلى المسؤولين القضائيين الذين وقع الفعل الجرمي في منطقة نفوذهم الترابي، و ضرورية  الحصول لبسط سلطة القانون وردع المخالفين.

العنف الذي مورس على المدرس إذن ليس فعلا عاديا، أي عنفا بين شخصين أو مواطنين عاديين تعاركا في الشارع وتدخل القانون لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بإيقاف المعتدي وتقديمه للعدالة، إن الأمر يتعلق بحجرة درس، بعلاقة بين طرفين يؤطرها التشريع التربوي، بين معلم ومتعلم، في رحاب فصل دراسي له حرمته وقيمته المعنوية التي لا يمكن رصدها بشكل دقيق في نصوص ومرجعيات قانونية، أي نوعا من القداسة التي لا تكتب ولا تقال، بل يشعر بها الطرفان داخليا، ويسلكان على منوالها خارجيا في احترام تام لمقتضياتها كنوع من التعاقد المضمر، إنها  تشبه الصورة التي يعكسها المسجد الذي بمجرد ما يدخله المؤمن حتى يشعر بنوع من الهيبة التي تكيف سلوكه مباشرة مع الأجواء الروحانية التي تعطر هذا الفضاء القدسي. حيث لا مجال للضجيج أو الحديث الهامشي أو حتى الهامس، بل على الكل أن يلزم الهدوء والإنصات والصمت والخشوع ونسيان كل ما يجري خارج هذا المكان الذي لا ينبغي أن يدنس بالأهواء أو الميولات الغضبية التي تفرزها أحيانا الحياة اليومية بإكراهاتها المتعددة.

في الفصل إذن، وبهذه المعاني السامية وقع الفعل الهمجي الذي خرب في لحظة هاربة الكثير من الرمزية والشعائرية القائمة في عمق فلسفة الفعل التربوي كفعل يستهدف البناء والتشذيب والارتقاء والهدوء والمعاملة المشروطة بأدب الحوار وأخلاقية النقاش. لهذا فالحدث يدعونا لتفكير هادئ ومقاربة عميقة تستحضر الكثير من المعطيات والعناصر الغائبة من المشهد في صورته السينمائية المثيرة.

مقدمات الفعل هي الغائبة، الأرضية التي سمحت لهذا السلوك بأن يولد في رحم المدرسة، ويكبر وينضج ويتحول إلى فعل مناف لكل الأعراف التربوية هي الشاردة. ها هنا يطرح سؤال السلطة البيداغوحية للمدرس ودورها في بناء علاقة سوية بالتلاميذ، سلطة ليست تسلطا، بل نفوذا معنويا يقتضيه حضور المدرس في الفصل والذي على ضوئه تصبح العملية التعليمية التعلمية ممكنة ومحصنة ضد كل انفلات.

الفعل التعليمي يقتضي أن توفر له شروطا مسبقة، تأطيرا يشمل الحياة المدرسية ككل، يبدأ هذا الفعل من أول خطوة يخطوها التلميذ من الشارع إلى المؤسسة، حيث ينبغي أن يجد أمامه نظاما، حضورا للقانون التربوي، مراقبة يومية منتظمة، مساءلة  تهم كل ما له علاقة بالنظام الداخلي للمؤسسة، أي ينبغي أن يشعر المتعلم أنه في رحاب النظام، في ضيافة سلطة لها أثرها المباشر والسريع على سلوكه، بحيث لا مجال للعشوائية في التدبير، أو المزاجية في التعامل مع الانحرافات التي يمكن أن تصدر عن بعض التلاميذ غير المنضبطين، أي أن يسود الوضوح في التعاقد بين المؤسسة والتلاميذ، والصرامة في المحاسبة والمعالجة التربوية القمينة بوضع حد لكل سلوك من شأنه أن يؤسس لظاهرة قد تضعف القانون التربوي، وتعصف بالقيم المدرسية التي هي أساس وجود المدرسة، وضمان استمرارها في أداء دورها التربوية والتنويري دون إخلال بالواجب والانضباط.

المقدمات الغائبة أساسية لفهم ما يقع وما سيقع من سلوكات مماثلة أو أكثر شراسة إذا ظلت المؤسسة غير قادرة على فرض منطقها وتسييد سلطتها دون تمييز أو تأخير أو مواربة. هذا يقتضي بالضرورة تواصلا بين كل الفاعلين داخل المؤسسة، توافقا تربويا خارج كل مزايدة أو ضغط له علاقة باعتبارات بعيدة عن الحقل التربوي، حيث أنه عندما يعجز كل فاعل عن فهم أدواره وحدودها والمسؤوليات الناجمة عنها يسود الغياب والتحلل من الالتزامات، والارتجال والتعامل الاعتباطي الذي يفسح المجال للنرجيسيات أن تتكاثر، وللأهواء أن تتمكن من النفوس وتصبح الحياة المدرسية ساعتها حلبة للصراعات والتشرذم والموت البطيء. إنه الداء الذي سينتقل مفعوله إلى التلاميذ ويشعرهم بأنهم خارج كل رقابة، و محميين من كل متابعة من شأنها أن تطال مستقبلهم الدراسي.

سلطة المدرس البيداغوجية لا تأتي من فراغ، بل من قوة حضور هذه المقدمات، حيث يصبح الفصل الدراسي امتدادا للحياة المدرسية، مجالا مصغرا لما يجري في فضاء المؤسسة ككل، حلقة ضمن حلقات أشمل، لحظة مرتبطة بزمن أكبر ينظمه النظام الداخلي ويسهر على تنفيذه أطر متخصصة في الرصد والتتبع والتصدي المباشر لكل سلوك شاذ. بهذا المعنى تتقوى سلطة المدرس وتصبح لازمة لجعل الفصل مكانا يتحقق فيه النظام الذي هو شرط التعلم السليم.

لكن سلطة المدرس لا تتقوى إلا عندما يرافقها اعتدال في التعامل مع التلاميذ، سيطرة بيداغوجية على المادة الدراسية، تشغيل للتلاميذ يبعدهم عن الشعور بالملل، ويبقيهم في حالة يقظة عقلية ، مراقبة أدائهم، الثناء على المجتهدين، تشجيع المترددين، الرفع من معنويات الخائفين، العدل في التنقيط، امتلاك حدس إنساني رفيع في التصدي لكل المناوشات دون السقوط في فخ ردود فعل ثقافة التلاميذ التي لها علاقة بسنهم ومتطلبات نموهم وأصولهم الاجتماعية والطبقية.

سلطة المدرس البيداغوجية تعني إذن علاقة تربوية أساسها فهم حاجيات التلاميذ، تشخيص نوع الخصاص الذي يشكون منه، ثم محاولة تكييف الأداء مع هذه المتطلبات، وإشعارهم أن الدرس هو استجابة لانتظاراتهم الصامتة، والمدرس هو رهن إشارتهم لمساعدتهم على تخطي الصعوبات، وتجاوز الإعاقات التي قد يكون مصدرها مسارهم الدراسي منذ الابتدائي حتى التعليم التأهيلي.

في مثل هذه الحالة المثالية التي يحيل إليها مفهوم السلطة البيداغوجية للمدرس تقل حالات التصادم، يتم تجفيف منابع العنف سيكولوجيا من التفاعلات المحتملة بيم المدرس والتلاميذ، أي أن الاقتراب منهم والإنصات إلى هواجسهم ومحاولة فهمها وتأطيرها بيداغوجيا هو الكفيل بحماية المدرس من كل عنف محتمل. على شرط أن تكون أدوات الردع مشغَّلة من لدن الإدارة التربوية، في حالة وجود تدخل مستعجل لحماية المدرسين من بعض التلاميذ المشاغبين الذين فقدوا الأمل في كل نجاح خاصة أولائك الذين لم يحصلوا على معدلات في الامتحان الجهوي، والذين تم إرجاعهم إلى الصفوف بدافع الاستعطاف حماية لهم من هدر مدرسي مبكر.

تشير الكثير من الدراسات السيكولوجية أن المدرس الذي لا يوفر للتلاميذ الشعور بالأمن، أي الذي يتخلى عن سلطته البيداغوجية، ويحاول التنازل عن موقعه تحت مبررات "نفسية" شائعة كتصورات تربوية خاطئة يصبح موضوعا للعنف، ذاتا تجتذب الكراهية والغضب والعدوانية، لهذا فالحفاظ على المسافة التي تقتضيها هذه السلطة أمر لا مناص من الحرص عليه حتى يدرك التلاميذ أن القسم يؤطره نظام يسهر عليه المدرس و يضع حدودا لما هو مقبول قوله وفعله وما ليس مقبولا، أي أن يكون المدرس مرجعا أخلاقيا يذكر المتعلمين بأن الحوار معهم والنقاش لا يعني التحلل من القيم والالتزامات الواجبة حيال الثوابت التي تؤسس للفعل التربوي....

إذا كانت القيم التربوية تتعرض للتبخيس والتشكيك في الحياة العامة، فإن المدرسة هي الرهان لإعادة الدفء لهذه القيم وتنشيطها بممارسات مختلفة وخيالات تربوية فيها الكثير من الإبداع وبروح إنسانية بإمكانها التصدي للميوعة المنتشرة في الشوارع والعنف المتصاعد في الأزقة وبعض الأماكن العامة. لا يمكن أن نبرر العنف داخل المدرسة بما يجري في المجتمع، وأن نفكر في عسكرة المؤسسات كبديل للأنظمة التربوية الكفيلة بالحد من الشغب بكل أنواعه إذا توفرت الإرادات الصادقة والتضامن بين الفاعلين والتواصل بين كل الأجهزة أفقيا وعموديا، وبسط الشفافية في التدبير والصرامة في المحاسبة بما يعيد الاعتبار للمجال العمومي كقطاع تهدده الكثير من الأزمات  المتوقعة وغير المتوقعة...