..وهل لدينا دخول سياسي وثقافي واجتماعي حتى أقدم انطباعاتي عن المشهد السياسي بعد العطلة؟هكذا رد الأستاذ الجامعي؛ والفاعل السياسي، محمد حفيظ على سؤال "أنفاس بريس"، بشان توقعاته وقراءته للدخول السياسي المقبل.
محمد حفيظ برر طرحه بمجموعة من الأسئلة الحارقة التي تقلق - في نظره - العقل التقدمي بالمغرب.وعلى رأسها: هل نتقدم أم نراوح مكاننا أم نتراجع؟
فيما يلي الورقة التي أعدها محمد حفيظ لـ "أنفاس بريس":
حينما طرحتم علي السؤال عن الدخول السياسي، تساءلتُ بدوري هل يحق لنا في المغرب أن نطرح هذا السؤال؟ هل نتعامل مع الزمن بما يقتضيه مفهومه الذي يحيل إلى التراكم والتطور والتقدم؟ هل نواكب مسار الزمن، فنخرج من زمن ماض لندخل زمنا حاضرا ونتهيأ لولوج زمن المستقبل؟ أم أننا لا نبرح المكان والزمان أيضا، فنبقى فيهما قاعدين؟ بل إنني تساءلتُ: ألا نخرج من زمننا هذا لنَرْجع إلى الزمن الماضي الأليم، بما يحمله من مآس سياسية وحقوقية واجتماعية؟...
لن أكون مبالغا ولا متجنيا إذا قلت إن المغرب يعيش وضعا مترديا على جميع المستويات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقيمية. ولأن الوقائع والأحداث تؤكد ذلك، فلم يعد بإمكان أي أحد أن يجتهد في إخفاء هذا التردي.
انظروا إلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتكلم الناس بالصوت والصورة والكتابة. أنصتوا إلى محادثات المغاربة في جلساتهم في المقاهي والأسواق والبيوت. اختاروا أي فئة من فئات المجتمع، في المدن والقرى، في الأحياء الراقية والمتوسطة والشعبية. اسألوا النساء والرجال؛ اطلبوا رأي الشيوخ والكهول والشباب وحتى المراهقين...
ولمن لا يثق إلا في ما يصدر عن الدولة، يمكن أن يرجع إلى الخطاب ما قبل الأخير للملك نفسه، رئيس الدولة، الذي انتقد واستغرب واستاء واستنكر وغضب واشتكى وهدد ولم يُخْفِ صدمته وخجله وقلقه...، فتجاوز في النقد - وما تلاه هنا - كل مرؤوسيه ممن يتربعون على مناصب الدولة ومؤسساتها. وهو لم يستهدف في انتقاده الأحزاب السياسية وحدها – كما حاول البعض أن يسوق له - بل صب جام غضبه أيضا على الإدارة ومؤسسات الدولة، حين تساءل عن الجدوى من وجود المؤسسات وتعيين الحكومة والوزراء والولاة والعمال والسفراء والقناصلة... وهؤلاء كلهم من "خدام الدولة" والمتربعين على مناصبها السامية.
الصورة القاتمة التي رسمها الملك ليست صورة جزئية تخص فقط جزءا من مؤسسات الدولة وموظفيها، بل إنها تخص الدولة ككل وتعكس صورة النظام برمته، وهي بمثابة حكم على منظومة سياسية بامتداداتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ولذلك، لا يمكن أن يكون الحل جزئيا، بل إن المطلوب حل شامل يستهدف المنظومة ككل.
فحين نتحدث، مثلا، عن "سياسة الريع" (وقد أشار الملك، في معرض تسجيله لبعض الاختلالات الصادرة عن مسؤولين بالدولة والأحزاب، إلى الاستفادة من الريع واستغلال السلطة والنفوذ)، فإننا نستحضر الريع السياسي، والريع الاقتصادي، والريع الاجتماعي، والريع الحزبي... وغير ذلك من أنواع الريع الذي أفسد البلاد والعباد. ولا أحد يمكن أن يُنكر أن النظام هو من رعى هذا الريع ومارسه على أرض الواقع ورسخه في الحياة العامة، حتى أصبح سلوكا سائدا في المجتمع المغربي. فالفساد السياسي ليس معطى فطريا، ازداد المغاربة مزودين به، بل هو سلوك مكتسب في الواقع. وهذا الواقع من صنع الدولة وأجهزتها على مر عقود.
إن المغرب، عوض أن يتقدم، يتراجع إلى الوراء؛ أزمته مُرَكَّبَة يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي والاجتماعي بالثقافي/ القيمي، واستقراره هش لا تنفع معه لا حلول جزئية ولا مُسكنات ظرفية.
ولأنكم طرحتم السؤال عن "الدخول السياسي"، فأنا اتساءل معكم: أي دخول سننتظره في زمن حكومة لا أتردد في وصفها بأنها إحدى أسوأ الحكومات التي شهدها المغرب. فحتى وصفها بـ"الحكومة الضعيفة" لم يعد يستقيم بعد هذه الشهور القليلة التي مرَّت من عمرها ومن عمر المغرب والمغاربة. لا أحتاج إلى التذكير بظروف تشكيلها السياسية والدستورية، وطبيعة مكوناتها الحزبية والتقنوقراطية، ونوع العلاقة التي تجمع أحزابها ومتعهدي قياداتها... إلخ. إننا، في النهاية، أمام حكومة تعتبر من سيئات التراجع الذي يشهده المغرب في السنوات الأخيرة. فبهذه الحكومة اسْتُكْمِل الإغلاق النهائي للقوس الذي كان شباب المغرب وراء فتحه سنة 2011. ولذلك، وجب أن تنقطع هذه السيئة، حتى لا تَتحول إلى "سيئة جارية" تمتد آثارها إلى ما بعدها.
فلن يُمحى من تاريخ المغرب ومن ذاكرة المغاربة أن أول إنجاز حققته هذه الحكومة هو ذلك الذي وَثَّقَتْهُ بمداد من الدم، حين فقد مواطنان حياتهما إثر تدخلات القوات الأمنية لمواجهة حراك منطقة الريف، ولم يكن "الجرم" الذي ارتكباه غير الخروج إلى الشارع من أجل مطالب اجتماعية واقتصادية وثقافية عادلة، وبشكل سلمي وحضاري.
فأي دخول يَعِدُوننا به هؤلاء الذين يدشنون سجل منجزاتهم بإهدار الحق في الحياة؟
أي دخول يبشرنا به هؤلاء الذين أطلقوا حماستهم القمعية باعتقال عشرات الشباب ومحاكمتهم وإصدار أحكام قاسية تذكرنا بمحاكمات وأحكام الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي خلال ذلك المرحلة التي كنا نسعى إلى طيها ودفنها باسم "سنوات الرصاص"؟
أي دخول يمكن أن ينتظره المغاربة ممن يزجون بشباب البلاد وأطفالها في السجون، فقط لأنهم طلبوا من الدولة أن تتحمل مسؤولياتها وأن تنهض بمهامها اتجاه الوطن والمواطنين؟
لا يجدر بنا، والحالة هاته، أن ننخرط في الحديث عن الدخول السياسي، وكأن الوضع في المغرب طبيعي وعادٍ، أو كأن القطار المغربي يسير على سكته مطمئنا إلى وصوله المحطاتِ القادمةَ بأمن وسلام.
الوضع في المغرب غير عادٍ وغير مُطَمْئِن. ومن يقول عكس هذا، إما أنه يريد أن يغطي الشمس بالغربال، وإما أنه لم يقرأ درسا من دروس التاريخ. ولعل من أخطر سمات هذا الوضع الدوران في حلقة مفرغة، حيث لا يكاد المغرب يخطو خطوة إلى الأمام ليخرج من الوضعية التي يوجد فيها حتى يعود أدراجه، إن لم يتراجع إلى الخلف خطوات أخرى.
إن المغرب يحتاج إلى "دخول استراتيجي" بحلول جذرية؛
المغرب يحتاج إلى الإقدام بكل جرأة على إصلاح سياسي شامل يخرج بنا من دولة غير ديمقراطية إلى دولة ديمقراطية.
المغرب يحتاج إلى الإرساء الجدي لأسس تنمية اجتماعية تستهدف الرقي الفعلي والدائم بأوضاع المواطنين بما يصون كرامتهم ويضمن حقوقهم في العيش الكريم، وتعمل من أجل التقدم الاجتماعي والاقتصادي الذي تنعكس فوائده على الوطن وعموم المواطنين.
المغرب يحتاج إلى التوجه بكل شجاعة نحو تنوير ثقافي ينهض بتَمَثُّلنا للوطن ويُعْلِي من شأن الإنسان ويرقى بثقافة العيش المشترك داخل مجتمع يُؤْمِن بالحريات والحقوق ويُؤَمِّنُها.
حينها، يمكن أن نقوم بـ"الخروج الكبير" من مرحلة ودخول أخرى تتجه باطمئنان نحو المستقبل. وحينها، يمكن أن نتحدث عن الدخول السياسي مطلع شهر شتنبر من كل سنة.