الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

الحسن عبيابة:  قراءة أولية في تقرير النموذج التنموي الجديد

الحسن عبيابة:  قراءة أولية في تقرير النموذج التنموي الجديد الحسن عبيابة 
  بعد أكثر من ثلاثة سنوات خرج تقرير النموذج التنموي الجديد الذي أمر به جلالة الملك محمد السادس نصره الله، وقدمه رئيس اللجنة السيد شكيب بنموسى أمام أنظار جلالة الملك يوم الثلاثاء 25 ماي 2021، بالقصر الملكي بفاس،  وكانت طقوس مراسيم تقديم التقريرلها أكثر من دلالة، حيث حضر هذا التقديم ممثل (المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية ومؤسسات الحكامة، والمؤسسات السياسية)، وهؤلاء كلهم ساهموا في تقديم مساهماتهم بخصوص النموذج التنموي الجديد، وبالتالي فهم معنيون بالمحتموى وبالتنفيذ. 
وفي هذه القراءة لابد أولا أن نشيد إشادة كبيرة بجلالة الملك على مبادرته بإقتراح مشروع النموذج التنموي الجديد، وتعيين لجنة خاصة من خيرة الخبراء من مختلف المشارب والتخصصات للإشراف صياغة نموذج تنموي جديد ، يجيب على مطالب المواطنين، ويلبي إحتياجاتهم، ويستسرف المستقبل، لأن إختيار التوجهات الإستراتجية الكبرى هي من إختصاص جلالة الملك المنصوص عليها في الفصل 49 من الدستور الخاص بالمجلس الوزاري، كما أن إقتراح جلالة الملك مشروع النموذج التنموي الجديد، جاء لملىء فراغ وخصاص في إقتراح الحلول والمبادرات الفعالة والمقبلولة من الجميع، لأن برامج الأحزاب التي تقترحها أو تتبناه لاترقى بأن تكون نماذج للتنمية، وذلك لعدة عوامل سنذكرها في حديث آخر، وهنا يكمن قوة دستورنا الحالي، في أنه يترك المجال والمبادرة، في هذا المجال حصريا لجلالة الملك في إقتراح مشاريع وتوجهات على المؤسسات وفي نفس الوقت يساهم فيها الجميع، وهنا نجد أن هناك نسقا دستوريا بين المبادرة والمشاركة، وهذا يعكس تماما الديمقراطية التشاركية بمعايرها الدولية المتعارف عليها، ولايفوتنا هنا الإشادة باللجنة المكلفة بإعداد مشروع النموذج التنموي الجديد على المجهودات التي قامت بها، لأنها تضم خيرة خبراء المغرب من مختلف التخصصات، وأعرف صعوبة العمل في هذا المجال الفكري والميداني، والتوفيق بين الاقتراحات وإقتراح المدخلات وتجويد المخرجات، لابد كذلك بالإشادة بمحتوى المشروع، لكونه جاء غنيا بالعديد من الأفكار والإقتراحات والحلول، وهذا هو المطلوب من مشروع كهذا، كما أن تقسم العمل منهجيا إلى ثلاثة أقسام كان مبسطا، لإستعاب المحتوى، حيث تضمن كل قسم العديد من المواضيع والمحاور الأساسية لكل قسم، بحيث جاء القسم الأول تحت عنوان(مغرب اليوم  وعالم الغذ)، وشمل هذا القسم عملية التشخيص ومعرفة الواقع واستشراف المستقبل، أما القسم الثاني فجاء تحت عنوان: (النموءج التنموي الجديد، مغرب الغذ)، وتضمن أربعة محاور إستراتيجية منها الجانب الاقتصادي، والرأسمال البشري، وخلق فرص لإدماج الجميع، كما شمل هذا القسم الحديث عن مجالات ترابية لجلب التنمية، ويبقى القسم الثالث، جد مهم لأنه تحدث عن رافعات التغير، وتحديد الأوراش الأساسية، وتطوير الرقمنة، وإصلاح الادارة، وإقتراح آليات التمويل عن طريق القطاع الخاص والشركات الدولية، وختم هذا القسم بوضع ميثاق وطني من أجل التنمية، ويعتبر هذا القسم الأخير غاية في الأهمية لأنه مرتبط بالتنفيذ واستشراف المستقبل، ويرصد ملامح النموذج التنموي الجديد في بعده الزماني والمجالي، ويبقى مشروع النموذج التنموي الجديد عبارة عن وثيقة مرجعية للتفكير والبرامج وصياغة مجموعة من الإصلاحات والإجراءات المختلفة لتنفيذ المشروع عبر مراحل زمنية مختلفة، تلتزم بها كل المؤسسات لتحقيق تنمية شاملة توزع على جميع الجهات والجماعات عن طريق برامج محددة في كل جهة حسب إحتياجات المواطنين ، ويبقى النموذج التنموي الجديد كباقي المشاريع لابد من تسجيل بعض الملاحظات التي لاتقلل من محتوى المشروع بل تغنيه وتضيف إليه، لأنه حتما ستطرأ عليه بعض التغيرات في المستقبل بحكم التطورات والمتغيرات الإقليمية والدولية التي لانتحكم فيها، وبحكم كذلك أن قرارات التنمية لم تبقى كلها محلية، لأنه أحيانا بعض القرارات الدولية، أو بعض الأحداث الدولية قد تؤثر  بشكل مباشرة على مسار التنمية في بعض الدول، بما فيها الدول المتقدمة في أوروبا أو في بعض الدول الغنية مثل دول الخليج، أو في دول أخرى، ومن هنا لابد من تسجيل الملاحظات التالية:
 
1. على مستوى التسمية ،قدم المشروع بإسم تقرير ولم يقدم بإسم مخطط للتنمية لفترة (2035)، ولم يقدم كخطة إستراتجية للتنمية في أفق(2035)م، ويبدو أن سبب تسميته بالتقرير راجع إلى كون المحتوى يمثل أكثر من 50%، في التشخيص والإستماع والزيارات الميدانية، وقد يكون سبب التسمية مأخوذة من التقرير الذي أعده البنك الدولي تحت عنوان "المغرب في أفق 2040م، مع العلم أن جلالة الملك في خطابه السامي أثناء الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة 12 أكتوبر 2018م، الذي طلب فيه جلالته من اللجنة تقديم (مشروع) النموذج التنموي الجديد، وليس تقرير أومخطط.
2 . أن تحديد الفترة الزمنية لتنزيل مشروع النموذج التنموي الجديد في فترة (2035)، لم يذكر التقرير أسباب مقنعة لإختيارها، في حين أن البنك الدولي قد حدد في تقريره عن المغرب المدة في في أفق(2040)، لأن هذه التواريخ مبنية على معطيات محلية ودولية مأثرة في مجال التنمية في المستقبل. 
3. أن عنوان التقرير جاء تحت عنوان : (تحرير الطاقات واستعادة الثقة لتسريع وثيرة التقدم وتحقيق الرفاه للجميع)، وهو عنوان طويل غير محدد لأهداف المرحلة، في حين أن تقرير البنك الدولي أختار عنوان للتقرير عن المغرب(الاستثمار في الرأسمال اللامادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي)، وهو عنوان أكثر تحديدا وتفهما للوضع الإقتصادي المغربي المؤهل لإقتصاد الخدمات اللوجستية، وتصدير الصناعات التحويلة التي تستوطن بالمغرب بحكم توفير الشروط المناسبة، كصناعة السيارات والطائرات وما يرتبط بهذه الصناعات من صناعات مكملة، وهي الصناعات كلها تتطلب الرأسمال البشري المؤهل،وقد أخترت هذه المقارنة لكون تقارير البنك الدولي معتمدة دوليا وتأخذ بعين الاعتبار في مجال التعاون الدولي ومع المؤسسات المالية الدولية التي يتعامل معها المغرب، كما أن البنك الدولي يتابع بإهتمام مخرجات هذا التقرير، وذلك لكون المغرب يتعامل مع البنك الدولي في مجالات مختلفة. 
4. لم يشر التقرير إلى أن جزء مهما من محاور مشروع النموذج التنموي الجديد قد سبق تقديمها  قبل تقديم المشروع، ولابد أن هذه المحاور ستكون جزءا أساسيا من محاور النموذج التنموي الجديد ، مثل تعميم التغطية الصحية وهو مشروع إجتماعي ضخم، وقانون الإطار للتعليم الذي سيطبق في السنة المقبلة، وهو الركيزة الأساسية للمشروع، وكان لابد من إبداء الرأى في هذه المحاور أو تدعيمها في التقرير، حتى لايكون هناك تعارض، بين هذه الإصلاحات الكبرى، كما الجهوية كمصطلح وكمضمون خلت من العناوين الرئيسية ومن المحاور المهمة ، رغم بعض الإشارات إليها، لكنها تبقى إختيار دستوري ومؤسسة قوية للتنمية المحلية، وخصوصا بعد المصادقة على اللامركزية، في حين أن تقرير البنك الدولي عن المغرب  ركز في تحليله لآفاق سنة 2040 على التحولات التي يعرفها المغرب بخصوص التحول الديمغرافي والتنمية الحضرية للمجتمع في إطار الجهوية الموسعة، وارتفاع المستوى التعليمي للسكان في كل الجهات، لأن جلالة الملك طلب مشروع تنموي جديد يحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية. 
5 .أن اللجنة لم تستحضر بما يكفي تداعيات وباء كوفيد19, الإقتصادية الحالية والمستقبلية، حيث حتمت ظروف الحجر الصحي على فئات كبيرة من العاملين في العديد من القطاعات، وخصوصا القطاعات غير المهيكلة التي يعيش فيها المواطنون على مدخولهم اليومي، وتعتبر سنة 2020، من أسوء السنوات، للاقتصاد المغربي، حيث لم يتجاوز معدل النمو نسبة 1%، وحسب المعطيات لهذه السنة 2021، التي مضى نصفها فإن النمو لن يتجاوز 1,5%، في حدود قصوى، مما يعني أن تنزيل مشروع النموذج التنموي الجديد رهين برفع النمو الإقتصادي السنوي إلى 6% كحد أدني، مما يؤكد أن(2035) لن تكون فترة كافية لتنزيل النموذج التنموي الجديد،كما أن آليات التمويل تبقى غير واضحة وأحيانا غير مضمونة نظرا، لارتفاع تكلفة عملية تنزيل النموذج الجديد، وللإشارة فإن التقارير الدولية والإقليمية بما فيها تقارير منظمة الصحة العالمية لسنة 2021، تؤكد بأن وباء كورونا لازال مستمرا، ولازال العالم يواجه هذا الوباء  بإنتاح اللقاحات، وتعتبر فترة(2035) فترة تلقيح سكان العالم في حالة توفر اللقاح بشكل كاف وتوزيعها توزيعات عادلا على سكان العالم، من أجل تلقيح 80% ،من سكان العالم حتى تعود الحياة الطبيعية كما كانت على مستوى العالم، أما تداعيات وباء كورونا الإقتصادية فتذكر التقارير بأن فترة (2035) هي الفترة التي تعود فيها الحياة الإقتصادية إلى طبيعتها على مستوى العالم، لكن تقرير النموذج التنموي الجديد لم يتحدث عن كيفية التعامل مع هذه الوضعية الوبائية محليا وإقليميا ودوليا، في المستقبل، مع توقع سينورهات مختلفة تحسبا لأي مفاجأة.
6. أن تقرير مشروع النموذج التنموي كان قاصيا أحيانا في إصدار أحكام فيما تحقق من تنمية، وفي بعض مجلات الحرية، في حين أن البنك الدولي في تقريره إعتراف بأن المغرب (قد حقق خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، تقدما" لا يمكن إنكاره"، سواء على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي أو على مستوى الحريات الفردية والحقوق المدنية والسياسية، مما سمح للمغرب إطلاق مسار اللحاق الاقتصادي ببلدان جنوب أوربا)،  (إسبانيا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال)،ليصبح في أفق الجيل القادم أول بلد غير منتج للنفط في شمال أفريقيا ينضم إلى نادي الدول الوسيطة ذات الدخل المرتفع). 
7 . أن صياغة التقرير في كثير من فقراته تحتاج إلى المزيد من الشرح والتوضيع، لأنها يطغى عليها الجانب التقني والتوجه التقنوقراطي، والتقرير فيه تشابه من المخرجات مع تقرير سابقة للمؤسسات عمومية مثل تقرير المجلس الإقتصادي والاجتماعي، وتقارير بنك المغرب، وأحيانا نجد بعض التناقض، وفي الحقيقة فإن تقرير النموذج التنموي الجديد يحتاج إلى المزيد من الدراسة والنقاش والتوضيح، ليصبح وثيقة يأخذ منها الجميع.
8. أن الجانب السياسي المؤسساتي أغلفه التقرير، وتحدث التقرير عن سلبيات المؤسسات السياسية، ولم يتحدث عن مايجب أن تقوم به في المستقبل، ومن المؤكد أن الحكومات السياسية ووفقا للدستور هي التي ستنزل مضامين هذا التقرير كليا أو جزئيا، في المرحلة المقبلة، وأعتقد أن ضمان حكومات سياسية مرنة وقادرة على ركب تحدي المرحلة بحمولتها السياسية والاقتصادية والإجتماعية يستدعي إجتهادا دستوريا يمكن الدولة من الحفاظ على المكتسبات ويحقق الطموحات. 
9 .أن البنك الدولي إقتراح هدف محدد  "واقعي" يقضي بأن يصل الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد في المغرب إلى حوالي 45 بالمئة من مستوى نظيره في دول جنوب أوروبا بحلول عام 2040 مقابل 22 بالمئة حاليا.
في حين يطرح النموذج التنموي الجديد إلى رفع الدخل الفردي المغربي إلى 16 ألف دولار سنويا بحوالي 130 ألف درهم سنويافي أفق 2035 عوض 7800 دولار حاليا.
10 . أن التقرير ذكر بعض التعبيرات التي تمت خلال عملية الإستماع كن مختلف الشرائح، مثل(...لاشيء ينتظر من القادة السياسين،المغرب في حالة حرب ضحاياه الشباب....)، هذه الأشياء تكون في النقاش ولا تدون في التقارير ، لأنه قد يستعملها خصوم المغرب في الداخل والخارج، ويعتبرونها أحكام صارة عن وثيقة رسمية. 
11. أن تقرير مشروع النموذج التنموي الجديد، رغم هذه الملاحظات يبقى مرجع للعديد من الأفكار والإقتراحات والحلول، التي نتفق عليها جميعا، ونتهيأ للمشاركة في تنفيذها في المستقبل. 
12.  رغم هذه الملاحظات التي ذكرت وغيرها، يبقى تقرير النموذج التنموي الجديد الذي قدم أمام جلالة الملك مرجعية مركزية للعديد من الأفكار والإقتراحات والحلول الممكنة، ويجب على العمل على ترجمتها في شكل قوانين جديدة، وبرامج إجتماعية واقتصادية قد تحقق مطالب المواطنين وتحد من الفوارق الإجتماعية والجهوية، وتحقق التنمية المجالية في كافة تراب المغرب.
ذ.الحسن عبيابة  أستاذ التعليم العالي ووزير سابق ورئيس مركز ابن بطوطة  للدراسات والأبحاث الإستراتجية