الخميس 18 إبريل 2024
كتاب الرأي

حيون: دور الدين في إرساء نُظم الحكم.. تطابق الرؤية الميكافيلية مع التصور الخلدوني

حيون: دور الدين في إرساء نُظم الحكم.. تطابق الرؤية الميكافيلية مع التصور الخلدوني نور الدين السعيدي حيون
- مقدمـــة :
أثارت علاقة الدين ونظم الحكم في إقامة الدول، عديدا من التساؤلات التي أصبحت تشكل مركز التفكير والمعرفة والسياسة منذ القرون الوسطى وإلى يومنا هذا، مما أسال الكثير من مداد الفلاسفة والسياسيين بل وحتى رجال الدين والفقهاء، وعموم المفكرين الرسميين والمعارضين، وطرح الكثير من الإشكالات، وفي مقدمتها، التساؤل حول دور الدين في إرساء نظم الحكم؟ وإلى أي مدى توظف أنظمة الحكم الدين في تصريف شؤونها؟ وهل استطاعت البشرية النجاح في تحقيق ذلك؟ وما هي النظريات المعتمدة في التنزيل؟ إذ لا يمكن لأية فلسفة ولأي تفكير نظري حول الدين والحكم في الواقع البشري أن يتجنب هذه التساؤلات. فحياة كل فرد منا ترتبط بهاذين المفهومين اللذان لا زال الكثيرون يتطارحون في شأنهما كمتلازمتين؛ كما يشعر كل فرد منا بأنهما يعنيانه مباشرة؛ من قريب أو بعيد، أضف إلى ذلك أن مزيجا من الفضول والقلق يحيط بـهذه التساؤلات. إذ كيف يمكن للمرء ألا يتساءل اليوم عن السبل والوسائل التي انتهجها كل من ابن خلدون ومكيافيللي إلى دفع الحاكم لاعتماد الدين في ترسيخ حكمهم رغم تباعد الزمن بينهم؟، وإلى أي مدى يتطابق تصور الأول مع رؤية الثاني؟ ألم يصبح نظام الحكم/الدولة منذ أن وجد مرتبط بالدين ارتباطا عضويا أو مؤسسيا ؟ وهل يمكن لأي منا أن يلغي هذا الرابط الذي لا يختلف اثنان في سمته الواقعية، أيمكنه أن يخترق هامشا من الحرية أو يحافظ عليه ؟ وهل يمكن لنظم الحكم أن تصبح مستقلة بذاتـها عن الدين؟، فإذا كان الجواب بنعم، ما هي أهمية هذه العلاقة وما هي إيجابياتها وسلبياتها ؟ إن التساؤلات تتضاعف وتنصب على الأسئلة نفسها، على المعنى الذي تحمله والـهدف الذي يصبو إليه كل من الدين ونظم الحكم. هذه الغزارة من التساؤلات القوية والوجيهة حول هذين المفهومين، ومظاهرهما المتعددة التي مازال البعض منها مطروحا وبحدة إلى يومنا هذا، وإن كان الفكر الإنساني قد تجاوز بعضها الآخر.

وقد تبدو أن مقارنة تصور ورؤية كلّ من ابن خلدون ونيكولا مكيافيلي، حول دور الدين في نظم الحكم، ومدى تطابقهما، أو العكس، أمر ليس بأهمية، وذلك بالنّظر إلى ما يمكن أن تتركه بعض مَواطن الاختلاف بينهما فكراً وحياة من إيحاء باستحالة المقارنة، لكن من خلال دراسة فكر كل من مكيافيلي وابن خلدون، فإن المقارنة تكون أكثر أهمية من غيرها‏، ولا سيما من ناحية دور الدين في إرساء نظام الحكم، وذلك راجع إلى العديد من السمات التي جمعت بين الرجلين سواء من حيث تصوراتهما ورؤيتهما السياسية، أو من خلال بعض ممارساتهما السياسية.(1)

وبما أننا سننكب خلال هذا المقال على الأفكار التي أنتجها صاحبا «الأمير» و«المقدمة»، فإنه لا بد من الوقوف على المفاهيم المؤطرة للموضوع، والإشارة للسياقات التي أَنجَبت كلّاً منهما، وبعض ملامح شخصيتهما السياسية، بعدها سنعرج على تطابق رؤية ميكافيلي مع تصور ابن خلدون لدور الدين في إرساء نظم الحكم في كل من أوربا والعالم الإسلامي، وأوجه التشابه والاختلاف فيما بينهما حول هذه الأطروحة.

-المبحث الأول: معاني ودلالات مفهومي الدين ونظم الحكم
لطالما تميّزت بعض المصطلحات والمفاهيم في حياة الإنسان دوناً عن المصطلحات الأخرى، فمثل هذه المفاهيم لها تأثير كبير على الكيان الإنساني، وعلى الحياة بشكل عام؛ حيث تُسهم بشكل رئيسي في تحويل مجرى حياته، وإحداث تغييرات عميقة في شخصيته، وحاضره، ومستقبله، من خلال كونها تُقدّم وجهات نظر جديدة للإنسان عن العديد من القضايا الحساسة التي تؤرق تفكيره، وربما تحول بينه وبين المضي قدماً نحو الأمام في حياته. من هنا يرى المفكر المغربي الدكتور عبد الله العروي " أنه من الضروري توضيح المفاهيم المستعملة في البحث التاريخي...، ومن الناحية المنهجية الاهتمام بالجزئيات أو التركيبات يتطلب أولا فحص المفاهيم المستعملة ".(2)

- المطلب الأول : مفهوم الدين
إن من بين أبرز المفاهيم التي شكلت جدلا كبيرا بين الفلاسفة، والعلماء، والمؤرخين، وعلماء الاجتماع، والتربويين، وكافة أصحاب العقول المبدعة مفهوم الدين؛ حيث يتواجد هذا المفهوم في العقول بشكل مستمر سواءً كانت متحيّزة له أو ضده، وفيما يلي بعض أبرز معانيه ودلالاته.(3)

* لغة، مأخوذ من الفعل دان، بمعنى اعتقد واعتنق، وهو عبارة عن الطاعة الكاملة، والانقياد بفكر، أو مذهب معيّن، والسير في ركابه وعلى هداه.
* اصطلاحاً، فهو عبارة عن مجموعة من المبادئ والقيم، التي يعتنقها مجتمع من المجتمعات اعتقاداً، وقولاً، وعملاً.
* شرعيا، يتمحور معنى الدين في الإسلام حول معنى التوحيد، والاستسلام والتسليم الكامل لله تعالى، وعبادته قولاً وفعلاً، والإيمان بما جاء في كتاب الله، والسنّة النبويّة الشريفة، والالتزام بالعقائد والأحكام، والتشريعات، والأوامر والنواهي التي حدّدتها الشريعة. (4)

* مفاهميا، يعرف الدين على أنه مجموعة المعتقدات والأفكار التي يُسلم الإنسان بها، والتي تجيب عن مختلف الأسئلة المهمّة التي أرّقته منذ الأزل، ولا تزال تؤرق فئةً كبيرة من الناس إلى يومنا هذا؛ فالدين يُعطي تفسيراً للإنسان حول الغاية من وجوده على هذه الأرض، كما أنه يتمحور حول فكرة الإله المعبود، ويتعامل بشكل كبير مع الأخلاق، ويضع الأطر التي تنظّم بعض جوانب الحياة، أو كلها. تطوّر الدين يوماً عن يوم على مر العصور والأزمان، فظهرت على الأرض آلاف الديانات؛ منها ما انتشر، ومنها ما اندثر، وقد تنوّعت مضامين هذه الديانات؛ حيث ركزت بعضها على المفاهيم الأخلاقية، في حين كانت الأخرى تركز على الجانب الواقعي من حياة الإنسان، وهناك ديانات اهتمت بتجربة الإنسان الروحية الفردية، وسعت لتطويرها، وفي المقابل هناك ديانات اهتمت بالتجربة الدينية الجماعية، وقد سعت ديانات معينة إلى المزج بين مختلف الجوانب السابقة.(5)

- المطلب الثاني : مفهوم نظم الحكم/ الدولة
إنّ العيش ضمن مجموعة هو حاجة غريزيّة عند الإنسان منذ القدم، فالإنسان مخلوقٌ اجتماعيٌّ بالفطرة، لا يقوى على الوحدة والعزلة، ومع تطوّر الزمن وتحضّر الناس حياةً وفكراً بدؤوا بالتجمّع ثم ظهرت الدول، والدولة هي مجموعةٌ من الناس الذين يتشاركون الأنشطة والحياة على بقعةٍ محددةٍ من الأرض، خاضعين لنظامٍ سياسيّ كانوا قد اتفقوا عليه؛ ليتولى شؤون حياتهم، مما يؤدي إلى النهوض بجوانب حياتهم المختلفة على الصعيد الاقتصاديّ والاجتماعيّ بما يضمن ازدهار الفرد وانتعاشه في ظلّها، وتقوم على أسسٍ ثلاثةٍ ( الشعب، الأرض والسلطة السياسيّة )، وتتنوع نظم الحكم، و تختلف أشكالها من مجتمع لآخر، وباختلاف دساتيرها وسياساتها وقوانينها الداخلية.(6)

ونظم الحكم، هي مجموع المؤسسات السياسية التي تتكون منها الدولة وتنظم عملها، وتتكون الحكومة غالبًا من السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتُصنّف أنظمة الحكم بعدة طرق، منها ما يكون حسب طريقة استلام الحاكم للسلطات، ومنها ما يكون حسب طبيعة النظام ومقدار الحرية والديمقراطية. 
-المبحث الثاني : تطابق الرؤية المكيافيللية مع التصور الخلدوني لدور الدين في إرساء نظم الحكم
لقد كانت ولازالت رغبة الإنسان غالبا، العيش في ظل نظام حكم/ دولة آمن ومستقر، منذ بدء التمدن والتحضر البشري، حيث يسعى إلى تحقيق ذلك، إما بطرق سلمية، أو عن طريق القوة، بفعل سلطة قهرية يمارسها شخص واحد أو جماعة واحدة ،  من خلال استعمال السلطة الدينية، أو في ارتباط معها، وهو ما اهتم به كل من ميكيافيلي وابن خلدون رغم بعدهما الزمكاني والعقائدي. 

-المطلب الأول : الرؤية المكيافيللية لدور الدين في إرساء نظم الحكم .
يعد ميكافيللي (1469 – 1527) من أشهر المفكرين السياسيين الذين عرفتهم العصور الحديثة، وتعود شهرته أساسا، إلى انتهاجه نهجا مختلفا عما كان رائجا في الكتابات السياسية في العصور الوسطى وما قبلها، إذ كان أول مفكر أوروبي يطرح، بوضوح لا لبس فيه، موضوع العلاقة بين السياسة والأخلاق/الدين، حيث  "الغاية تبرر الوسيلة". (7)

وبالتالي فالواقع الذي حاول مكيافيللي إبداع مخارج له، كان فيه الدين ونظم الحكم وثيقي الصلة، مع محاولات جنينية لفك الارتباط بينهما، خصوصا وأن الكنيسة المسيحية في أوروبا، كانت تستشهد بأقوال الباباوات لدعم مطالبتهم بالسيطرة على العالم، ولكن تآكل النظام القديم كان واضحا للجميع. إن اقتصاد السلطة الدنيوية الذي جاء به ماكيافيللي، وحرية الضمير التي نادت بها حركة الإصلاح الديني استبقت نشوء مجتمع مدني تنظمه سلطة الدولة، وإن هي إلا مدة قصيرة حتى انهارت محاولة العصور الوسطى لفهم "الكنيسة والدولة"؛ بمعنى الدين ونظم الحكم، بوصفهما سلطتين تشريعيتين متكاملتين لجماعة مسيحية واحدة. كانت هذه بعض الخطوط العريضة للمناخ الفكري والسياسي والاجتماعي الذي خبره صاحب ميكافيللي،(8) وكرس معظم مؤلفاته لإنتاج مفهوم جديد للسياسة، بصفتها علما وضعيا منفصلا عن الدين والأخلاق، إذ كان ببساطة ينزع إلى تخليص السياسة من أي اعتبار خارجي، وإلى جعلها علما مستقلا بذاته. ورغم تعدد مؤلفاته وتنوعها، إلا أن أبرزها هو كتاباه، "الأمير" و"المطارحات"، حيث دشن طريقة جديدة في الكتابات السياسية، تتميز بميزتين:

* الأولى، هي تركيز اهتمامه على معطيات العالم السياسي الواقعي، وإهمال أي حديث عن إقامة جمهوريات أو إمارات مثالية.
* الثانية، هي عدم الاكتراث بمقولات علماء الأخلاق عما يجب فعله، بل الاهتمام بما يعمل حقا، بما يفعله الأمراء بصورة خاصة للحفاظ على سلطتهم.
وبذلك يعتبر أول من استعمل الدولة بمفهومها السياسي الحديث للتعبير على نظم الحكم، فإنها لا تنفصل عن الأمير وعن سلطته، وبالتالي تعد الركيزة الأساسية لنظرية الاستبداد التي ستهيمن على هذه الحقبة التاريخية، ولم يهتم بأصل الدولة ولا بتطورها وشرعيتها، بل ككيان موجود يجب العمل على تقويته وتوسيع نفوذه والاحتفاظ به باستعمال كافة الوسائل بما فيها الوحشية، المهم " أن يحافظوا على المبادئ الأساسية للديانة التي تصون وجودهم - حتى وإن لم يكونوا مؤمنين بها – وإذا ما عملوا هذا سهل عليهم أن يصونوا تدين دولتهم، مما يؤدي للحفاظ عليها متحدة طيبة ". وقد قسم أنظمة الحكم إلى صنفين:

* النظام الملكي، فهو يؤمن بضرورة الحكم المطلق أثناء نشأة الدولة الجديدة، وفي حالة ما استقرت وأصلحت من ّ فسادها وتملكت الأخلاق والفضائل سلوك شعبها، فعندئذ فقط يمكن تطبيق النظام الجمهوري.
* النظام الجمهوري، دافع عنه في كتابه "المطارحات " ولكن تراجع عن هذا الأمر في كتابه "الأمير" ليدافع عن نمط،      "الإمارات" التي قسمها إلى "وراثية" و"دينية"، معتقدا أن النظام الجمهوري هو النظام الأفضل، الذي لا يصلح إلا للشعوب المتمسكة بالأخلاق، أما غيرها من الشعوب فلا يصلح لها إلا نظام واحد وهو الاستبداد المطلق.
ويعتبر مكيافيللي الدين أداة من الأدوات التي يجب على الدولة تسخيرها في نظام الحكم لكونه أفضل الوسائل التي تعود الناس على الطاعة، كما قال "جان جاك شوفالييه":( كخادم للسياسة يعتبر شرطة فريدة من نوعها في الدولة، إنه أداة تأديبية عجيبة لا يمكن للشيء العام أن يستغني عنها، فحيث تكون العبادات الإلهية محتقرة يكون الفساد وهلاك الدولة وشيكين، لهذا فإنه لواجب مقدس على الحكام سواء أكانوا فاسدين استبداديين أو دستوريين أن يحافظوا على أسس الدين باعتباره ضمانا للاتحاد والأخلاق الحسنة)، على هذا الأساس، يميز بين طريقتين لاستعمال الدين:

• دين سليم، يشجع على القيام بمشاريع وخدمة الدولة.
• دين منحط، فإنه يشكل عاملا من عوامل الانحطاط والعجز.
 ويوصي الأمير بحسن استخدام الدين فهو يجبر الشعب على الطاعة في الأوقات الصعبة، حيث هي مسألة حكمة سياسية ومعرفة بالطبيعة البشرية، ما على الحكام سوى التمظهر بسلوكهم الديني حتى ولو كانوا في قرارة أنفسهم لا يؤمنون بالمسائل الدينية، على اعتبار أن القيمة الأساسية عند الأمير يجب أن تكون "المحافظة على دولته"، وأنه "لتحقيق هذه الغاية عليه أن يوظف كل وسيلة". (9)

- المطلب الثاني : التصور الخلدوني لدور الدين في إرساء نظام الحكم.
إن مأزوميةً الواقع العربي حفّز ابن خلدون (1332 – 1406) على انتقاد واقع زمانه الذي تخلّت فيه الدولة/ نظم الحكم عن الدعوة الدينية، حيث عمل على استقراء التاريخ المعيش كي يُدلّل على ما يذهب إليه؛ فمن التاريخ يستحضر تجربة الحُكم الرّاشدي ويعتبرها ذروة ما وصل إليه المسلمون، ثم ما لبثوا أن تهاووا نحو دول ظالمة لا تقيم للشرع قائمة، ثم إنهم بعد ذلك "انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين فنسوا السياسة ورجعوا إلى فقرهم، وجهلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة ببعدهم من الانقياد، وإعطاء النصفة، فتوحّشوا كما كانوا ولم يبق لهم من اسم المُلك إلا أنهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم، ولما ذهب أمر الخلافة وامّحى رسمها انقطع الأمر جملة من أيديهم وغلب عليهم العجم دونهم، وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون المُلك ولا سياسته، بل قد يجهل الكثير منهم أنهم قد كان لهم ملك في القديم"،(10)

 ويشير محمد عابد الجابري في كتابه "إشكاليات الفكر العربي المعاصر" إلى أن " الدين يوظف سياسيا منذ قيام معاوية بن أبي سفيان ضد علي بن أبي طالب، إذ ألقى مجموعة من الخطب في المدينة والكوفة ودمشق، يسوّغ فيها مبررات استلامه للسلطة مكرسا فكرة الجبر. بمعنى أن القضاء والقدر هما اللذان ساقا الخلافة إلى بني أمية، ومن هنا سار على دربه الخلفاء من بعده دون استثناء، مكرسين هذه الفكرة التي تعتبر الدين محورا لممارسة السلطة ".(11) ومن المعيش ينقل ابن خلدون الحال الذي آلت إليه "الدولة الموحّدية" بعدما تقوّت وسادَت أيام استنادها إلى الدعوة الدينية للمهدي ابن تومرت وعبد المؤمن، حتى إنها تجلّدت على من هم أجلد منها وأصلب، لكنها لمّا تخلّت عن دعوتها الدينية هانت وسهُل الهوان عليها. فالسبب الأساسي إذاً، لمَهلكة المسلمين وتشتت حُكمهم راجع، حسب ابن خلدون، إلى كونهم لا يُقوّون عصبية الدم بالدعوة الدينية كي يتحول الكل إلى عصبية سياسية.

وحسب الأستاذ محمد نبيل ملين " فإن إمامة الصلاة كانت تسمح للخليفة بممارسة صلاحياته وبإعطاء طابع ديني لوظيفته، غير أن السلطان الشريف أوكل هذه الوظيفة فيما بعد إلى كبير علماء حضرته. وقد كان السلطان يقوم على غرار أسلافه بشعائر دينية أخرى كذبح أضحية العيد بنفسه، وهي الطقوس التي لا زالت حاضرة في المغرب إلى يومنا هذا. الرهان لم يكن أساسا على الخطبة – يقصد خطبة الجمعة - بقدر ما كان يتعلق بالسيطرة على المساجد لما لها من ثقل في صناعة المواقف ونشرها "(12)
 
انطلاقا مما سبق هل حقيقة يَفترق ابن خلدون افتراقا حديا عمّا ذهب إليه مكيافيللي؟ أم العكس هو الصحيح؟ وهل الأخير فعـلاً نصح الأمير بأن يُبعد نفسه ودولته باعتماد الدين في تدبير شأنها العام؟
- المطلب الثالث: تطابق التصور الخلدوني مع الرؤية المكيافيللية.

الواقع، أنه لو اكتفينا بقراءة كتاب "الأمير"، لكان بالإمكان القول، إنه لا مجال لالتقاء مكيافيللي بابن خلدون، ولأمكن الجزم بأن الأول ينصح الأمير بأن يتحرر من الدين، بل عليه أن يعادي أي دعوة دينية، لكن إذا عدنا إلى كتابه "المطارحات" فإن الصورة ستختلف كليا، وستبرز عناصر التشابه بين الرجلين؛ فالأول على الرغم من رفضه الحكم الكنسي، إلا أنه لا يتحرج من توظيف الدين لغايات المصلحة العامة، من قَبِيل إضفاء الطابع الديني على القوانين الوضعية، وإظهار الاعتناء بالدين وطقوسه، حتى من غير أن يكون الأمير معتنقا أي دين. لقد مر معنا كيف أنه يرجع كل الفشل الذي يعتري الأمة الإيطالية إلى الحكم الكنسي، وأن الباباوية أفسدت الشعب من مختلف النواحي، بما في ذلك دفعه إلى هجر الدين المفروض عليه من قِبل رجال دين فاسدين. لكن هذا الموقف لم يمنع كاتب المطارحات من نصح الأمراء والجمهوريات، إذا هم رغبوا في النجاة من الاحتلال، بأن يحتفظوا " بنقاء طقوس الديانة التي يؤمن الأمير أو الجمهورية بها، وأن يحلوها محل الإجلال دائما، إذ لا دليل أصدق على انحطاط أي بلد من البلاد، من رؤية العبادة السماوية وقد غدت موضع الإهمال وعدم الاكتراث ". (13)

من هنا ستتطابق الرؤية المكيافللية مع التصور الخلدوني لدور الدين في إرساء نُظم الحُكم، حيث لن يكون في عُرفهما الدين عائقا أمام وحدة الأمم وضامنا لقوتها، ما دام الدين تحت سيطرة السلطة، تخدمه ظاهراً لكي يخدمها باطناً. فاهتمام ابن خلدون بدور الدعوة الدينية في تعضيد المُلك وتقوية دولته، لا يبدو أنه من مُنطلق ديني شرعي فحسب، بل هو من وحي التجربة والمُمارسة، لأن صاحب "المقدمة" لا يعتد بنوع معين من الحكم، بل فقط بمضمونه المستنِد على دعوة دينية قادرة على جلب المصالح ودرء المفاسد لـ " المُلك وللرعية "، فهو وعلى الرغم من تحديده منصب الخليفة على أنه " نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا، به تسمى خلافة وإمامة والقائم به خليفة وإماما ".(14)

إلا أنه لا يَعتبِر ذلك من الأصول الدينية ولا من منصوصاتها، وفي هذا يأتي رده على من يدعي النص على الإمامة بأن ذلك محض شبهة؛ فــ " الإمامة في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين كما يزعمون وليس كذلك، وإنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق ولو كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة ".(15)
 
هي إذاً، المصالح وتقديرات الخلق من تؤسس للدولة وتشرعن لأنواع الحكم، وهي نفسها "المبادئ" التي ينطلق منها مكيافيللي في دعوته الأمير إلى رعاية "الشؤون الدينية"، إذ يتوجب على حكام أي جمهورية أو مملكة، أن "يحافظوا على المبادئ الأساسية للديانة التي تصون وجودهم، وإذا ما عملوا هذا، سهل عليهم أن يصونوا تدين دولتهم، مما يؤدي إلى الحفاظ عليها متحدة طيبة ". (16)

ولم يكتفِ مكيافيللي بهذه الدعوة، بل نصح الحكام بأن يؤيدوا كل ما يسهم في تحقيق هذه الغاية، حتى ولو كانوا غير مقتنعين بصحة غايتهم هذه. فأهل المدينة في نظر صاحب المطارحات " يجلون سلطان الله أكثر مما يجلون سلطان الإنسان، إذ لم يكن هناك في الحقيقة مشرع واحد جاء بقوانين غريبة إلى أي شعب من الشعوب، لم يلجأ إلى القول إنّ الله، هو الذي أمر بها. فهذا هو السبيل – بالنسبة إليه – الكفيل بخلق القبول للقوانين "، ويشرح ذلك بقوله: " إن الكثير من الفوائد التي يحسّ بها الإنسان العاقل لا تكون واضحة جلية لكل عقل، بحيث يتمكن من إقناع الآخرين بها، وهذا هو الذي يدفع الحكماء إلى اللّجوء إلى ذريعة الله ".(17)

إن اللجوء إلى ما يسميه صديق الأمير "ذريعة الله" هو من باب الحرص على القوة والمهابة، وهما أمران لا يهم الأمير من أي مصدر ينالهما، علاوة على أن من شأن ذلك أن يحقق عظمة الدولة ويزيد وحدتها. وكما أن احترام العبادة السّماوية يكون مصدر العظمة في الجمهوريات، فإن إهمال هذه العبادة يؤدّي إلى خرابها. فمن " المعروف أنه حيث يوجد الافتقار إلى الخوف من الله، تكون المملكة إما قد أصابها الخراب، أو سيطر عليها الخوف من الأمير، وهو خوف يستعاض به عن الافتقار إلى الدين ". وهكذا يبدو "أمير" مكيافللي حاكماً شعبيا يسعى إلى التقرب من المحكومين واستمالتهم، والتودّد إليهم ببعض العطايا، يتظاهر بأمور قد تنال رضاهم من قبيل: التدين، الأخلاق، الإنصات، وذلك من أجل الظهور بمظهر العدل، مع إخفاء كل الجوانب السلبية في الحكم، باعتماد الدهاء، المكر، الخديعة، وإتقان لغة التخاطب السياسي".(18)

الحُجج نفسها التي يستند إليها مكيافيلي في دفاعه عن إيجاد دين خادم للدولة، يُعبّر عنها ابن خلدون لكن بأسلوب مغاير، وبمنهج ينطلق من الواقع العربي في ارتباطه بالتاريخ، وبتأثر كبير من كتب الآداب السلطانية. فإذا كانت الأخيرة قد قدّمت لتوضيح تصوّراتها حججا مختلفة شرعية تارة وعقلية تارة أخرى، فإن ابن خلدون يمعن في الاهتمام بعنصر "العمران" والاجتماع والاقتصاد في تكوين الكيانات السياسية. فلأن الدولة عند ابن خلدون لا تنفصل عن الملك أو السلطان، فهي وثيقة الصلة بالشوكة والعصبية من جهة، والمال والعتاد، وإن كان شديد الإلحاح على أن العصبية لا تكفي وحدها لتبرير قيام هذه الدولة على الصعيد الأخلاقي، وذلك لأن "الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية، واتفاق الأهواء على المطالبة وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه».(19)

 ولأن العصبية بما هي فكرة مجردة قد تكون النقيض لمفهوم الخير العام المستمَدّ من الشريعة المنزلة، فإن ابن خلدون يرى أنه: " لا إمكانية لنشوء الدول المستقرة ما لم يتضافر الخير العام والشريعة مع العصبية بشكل من الأشكال "، وينطلق ابن خلدون في تأكيده العوامل الدينية في نشوء الدول، من نظرته إلى أهمية العلاقة بين الدين والعصبية ونتائجها؛ فهذه العلاقة بنظره هي علاقة تآزر وتعاضد وتكامل، ما دام "الدين يزيد من قوة العصبية بالتخفيف من مظاهر التعصب، والعصبية من جهتها تمنح الدعوة الدينية قوة وفعالية".(20)

 وهنا يحدث نوع من التماهي بين تصوري "المطارحات" و"المقدمة"، فالدولة الخلدونية تحتاج إلى الدعوة الدينية، وسبب ذلك في نظر ابن خلدون عائدٌ إلى كون " الصّبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية ...وأن الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم…بمضاعفة الدين لقوتها ولو كانوا أكثر عصبية منها وأشد بداوةً... فلما تخلّوا من تلك الصبغة الدينية... انتزعوه (الملك) منهم والله غالب على أمره".(21)

قد يبدو أن ابن خلدون يلح على دور الشريعة في تربية النفوس، وحفزها على قبول التحضر، والمشاركة في العمران ونبذ العنف، بينما لا يلجأ مكيافيلي إلى الدين إلا بهدف نفعي بصرف النظر عن أي دور تربوي يمكن أن يؤديه الدين. لكن هذا الاختلاف سيتبدد إذا ما علمنا أن صاحب الأمير قام بمجموعة من المراجعات عند كتابته المطارحات، فهو لم يعد ينظر إلى التعليم الديني على أساس السلبية، أو بالأحرى، إن لومه للكنسية في هذه المسألة كان من منطلق أنها لم تعلم الناس الدين الصحيح، ولذلك يدعو إلى تعليم ديني ملائم وعلى قدر من الحيوية، حيث يجب أن يكون من النوع الصحيح. وقد رأى أن المسيحية لم تكن على المسار الصحيح، بعكس ما كان عليه الرومان، فقد حدّد دينهم الخير الأعلى للإنسان… مع الشهامة والقوة البدنية وكل شيء آخر يساعد على جعل البشر شجعاناً (22).

لقد كان مكيافللي متأثراً بفلسفة أرسطو لأنها تحمل في بعض جوانبها صفة الواقعية، وقام بتحليل عوامل استمرار وفساد الدول، على غرار ابن خلدون، الذي اعتبر أن الدول تسير دائماً في اتجاه الأفول، فهو يؤمن بحركية دورية للأنظمة السياسية، وهناك تطور نحو القوة والاندثار، لذلك كان يبحث عمّا يوطّد الاستقرار السياسي ويمنع موجات الصراع، " وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول".(23)

إن ما أدهش القرّاء، حسب المفكرعبد الله العروي، هو موقف الرجلين من الدين، لأنه كان بلا شك حاسماً بالنسبة إلى شعور معاصريهما. فمكيافيلي يحكم على المسيحية كإناسي وظيفي تقريبا. ويعتني في التفريق بين الممارسة البابوية والروح المسيحية، لكنه في تحاليله السياسية لا يرى في الدين سوى طريقة ممتازة لتربية الناس وتعليمهم وضبط غرائزهم: " إن تاريخ روما يبيّن لمن يقرأه بتمعّن كم كان الدين مفيداً ونافعاً لقيادة الجيوش ولتجديد راحة الشعب وللحفاظ على أهل الخير وإخجال أهل الشر". ويعبّر ابن خلدون عن الفكرة عينها في عدة فصول: فيؤكد أن البدو لا ينالون السلطة السياسية إلا إذا اتّحدوا في نطاق حركة ذات أساس ديني، لأن الإيمان الديني وحده، يذهب من قلوبهم "الغلضة والأنفة والتحاسد والتنافس"، ويقرر بعد ذلك أن الحمية الدينية تريح الدولة في بدايتها لأنها ترض الإرادة المشتركة وتوطد التكافل القبلي؛ عندها يمكن لنفر أن يسود أكثر". (24) 
 

- خاتمــــــة:
 للعروي موقف حاسم في هذا الموضوع، فهو يرى أن الأمر يتعلق بمفكرين ينتميان إلى حضارتين متباينتين، وأحياناً متعاكستين بقوة؛ وما من مشير يسمح بالتفكير في أن أحدهما أثّر في الآخر؛ ومع ذلك يتوصلان في معظم الأحيان، إلى استنتاجات متماثلة، وهذه ليست حالة فريدة من نوعها؛ فنحن نصادف كثيراً من الحالات المشابهة عندما نتابع التطور، المنفصل والمتوازي أيضاً.(25) 
كما يرى الباحث عبد الإله بلقزيز في كتابه " الدولة والدين في الاجتماع العربي الإسلامي"، أن المجال السياسي هو مجال صراع مصالح دنيوية وتنظيم للاجتماع الإنساني على قواعد مدنية عمومية، بالمقابل يشكل الدين مجالا خاصا بالأفراد المؤمنين" (26)
ومع ذلك لازال النقاش الحاد القائم بين أنصار الدولة الزمنية وأنصار الدولة الدينية، يطرح المزيد من الأسئلة الحارقة، أسئلة متزايدة في الوعي الإنساني، ولم تعد هذه الأسئلة من مشاغل المثقفين وحدهم ولكنها أصبحت تطرح نفسها على كل فرد يعمل أو يريد أن يعمل في السياسة، وفي هذا السياق نجد برهان غليون في كتابه " نقد السياسة: الدولة والدين " يكتشف محركة في روح التنافس، الذي بعثه ظهور الدولة بين منطق المراهنة على الولاء الروحي الأخلاقي -المنتج للجماعة- ومنطق المراهنة على الترتيب الإداري -السياسي المنتج للدولة-، ففي هذا التنافس تبرز في نظر الكاتب جذور الثورة الدينية ورهانها على الأخوة الروحية في الرد على الدولة القهرية، والثورة السياسية ورهانها على المواطنية الحرة في مواجهة الردة الدينية، كما تبرز العلاقة الجدلية بينهما.(27)
 
- البيبليوغرافيا:
(1) بتصرف عن: هنري لوفيفر، ترجمة حسن أحجيج، الدولة والسلطة،https://www.aljabriabed.net/n02_01jabri.htm
(2) ........."حوار حول الفكر الخلدوني"، منشورات جريدة الاتحاد الاشتراكي، العدد 4، (الدار البيضاء: دار النشر المغربية،1986)، ص25 و 26.
(3)  محمد مروان، مفهوم الدين،https://mawdoo3.com/
(4) فاطمة ردايدة، مفهوم الدين لغة واصطلاحا،https://mawdoo3.com/
(5) محمد مروان، نفسه.
(6) فداء أبو حسن، أنواع أنظمة الحكم، https://mawdoo3.com/
(7).........، ما أنواع أنظمة الحكم،https://sotor.com/
(8) زين الدين الحبيب استاتي، محاضرات الفكر السياسي : الفكر السياسي الاستبدادي ، 2020/2019
(9)عبد اللطيف العلام، سؤال الدولة والدين عند مكيافيلي وابن خلدون، https://caus.org.lb/ar/
(10) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، دمشق: دار يعر، طبعة 2004، ص 290 و 291.
(11) كريم الهاني، الدين في نظام الحكم بالمغرب: مسرحة السلطة وشرعنتها، الجزء الثاني، http://marayana.com/laune
(12) كريم الهاني، نفسه.
(13)(مكيافيلي، 1982، ص 265.
(14) ابن خلدون، نفسه، ص 366.
(15) ابن خلدون، نفسه، ص 393.
(16) زين الدين الحبيب استاتي، محاضرات الفكر السياسي : الفكر السياسي الاستبدادي،  2020 / 2019
(17) و (18) عبد اللطيف العلام، سؤال الدولة والدين عند مكيافيلي وابن خلدون، https://caus.org.lb/ar/
(19) ابن خلدون، نفسه، ص 313.
(20) محمد عابد الجابري، العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، الدار البيضاء: دار الثقافة، 1971، ص 288.
(21) ابن خلدون، نفسه، ص  314 و315.
(22) عبد اللطيف العلام، سؤال الدولة والدين عند مكيافيلي وابن خلدون، https://caus.org.lb/ar/
(23) ابن خلدون، نفسه، ص 116.
(24) عبد الله العروي، ابن خلدون وماكيافيللي ، 1990،ص10.
(25) عبد الله العروي، نفسه، ص 5.
(26) كريم الهاني، نفسه.
(27) برهان غليون، نقد السياسة : الدولة والدين،https://foulabook.com/ar/book/