الجمعة 26 إبريل 2024
مجتمع

الأطباء النبلاء كائنات في طور الانقراض!!!

الأطباء النبلاء كائنات في طور الانقراض!!! لغة الطبيب لا يمكن أن تفهمها ببساطة، حتى الخط الذي يكتب به الوصفة الطبية تحتاج إلى جهاز مخابرات
حين أقف أمام دكتور تكون وجها لوجه أمام "فدائي" و"مغامر"  و"حكيم" و" فيلسوف". الطبيب في العصور الوسطى كان يجمع من كل فنّ طرف: شاعر وأديب وفقيه وقاضٍ وفيلسوف. ليس من السهل أن تقرأ الأعضاء الداخلية المركبة والمعقدة للإنسان. لغة الطبيب لا يمكن أن تفهمها ببساطة، حتى الخط الذي يكتب به الوصفة الطبية تحتاج إلى جهاز مخابرات لفكّ طلاسمه. في صراعه ضد الساعة لا يجد الطبيب متسعا من الوقت للكتابة بخط بارز وحروف واضحة، لذا تأتي السطور بتلك التموّجات كأنها تعويذة ساحرة.
لكن لنتفّق أولا: أليس الطبيب رجلا ساحرا؟ 

من يحفظ الآلاف من أسماء الأدوية من دون أن يخطئ في تهجيتها، ويحدد لك مواقيت شربها، ونسبة استهلاكها… ألا يستحق أن يكون ساحرا؟!
أكون كالعادة في مسرح الأحداث داخل غرفة انتظار مصحة أو عيادة، أقرأ في وجوه المرضى الألم والوجع، لكنّ الانتظار أحيانا يكون أشدّ وطأة من المرض نفسه. أنانيّة المريض غالبا تجعل من الانتظار لعنة، وتحوّله إلى حقد دفين وكراهية، فيصبح الجالس في العيادة كأنّه يستوي على مقعد من نار. لهذا يشعر المريض الذي يقطع مسافة من بيته إلى عيادة الطبيب بأنه يمشي فوق الجمر، قبل أن يدخل العيادة كأنّه داخل إلى "جهنّم" على رجليه!!

وسط العيادة أو المصحة يذبحك "الانتظار" من الوريد إلى الوريد، يصبح وجعه أكثر من وجع الألم. وهنا تظهر أنانية المريض في أبرز تجلياتها وهكذا يمكن تخيّل غرفة الانتظار: مضمار سباق في مسافة مئة متر!! كلّ مريض يرى نفسه سيّدا للحلبة والأحقّ بالوصول إلى عتبة صالة الكشف. ليس من الضرورة أن يكون السباق نزيها وعادلا. في تلك اللحظة يتخلّص المريض من ألمه ووجعه، ويشتغل محرّك الأنانية في أقصى سرعته وأبشع صوره. كلّ مريض ينظر إلى وجه الآخر ولا يرى فيه إلّا غريمه. لذا حين يسمع المريض اسمه، يرسم ابتسامة خبيثة وهو ينظر في عيون منافسيه الذين يصبحون في تلك الومضة الزمنية "حلفاء"، يتبادلون النظرات الحقيرة، يطلقون الشتائم الهامسة واللّعنات القاسية، قبل أن تبدأ جولة جديدة من التنافس غير الشريف لمن يملك "الحقْ" في الدخول إلى قاعة الفحص ليقف وجها لوجه أمام الطبيب!!

بعض المرضى الذين لا يطيقون الصبر إما يفتعلون الشجار أو ينسحبون بالمرّة، ومنهم من يقول هذه الجملة الرّنانة قبل أن يصفّق باب العيادة من ورائه:
- شبعتو فلوووووس!!!!
 
مجرّد وصف بسيط لقاعة انتظار طبيب، وما يتحرّك في دواخلنا من مشاعر متناقضة بين القسوة والألم والكراهية والأنانية. 
وأنتَ في مواجهة الطبيب تستبدّ بك مشاعر وحسابات أخرى، تنظر إلى عدْاد الساعة وتقيس كم استنزفت من الانتظار ومدة الفحص والواجب الذي ستدفعه في النهاية بعد الخروج من غرفة الفحص. حسابات المريض من البداية قبل خروجه من البيت تكون خاطئة، ولا يفكّر بمنطق أن الصّحة لا تشترى بثمن، بل تكون هذه النظرة قاتلة حين ترى في الطبيب "جلّادا" أو "انتهازيا" يستغل ضعفك ومرضك ليسرق منك أجرة الفحص. والدليل أن سقوط طبيب بسبب مضاعفات تعرض لها المريض أو إهمال أو "خطأ طبي" في أقصى الحالات، يعني نصب مقصلة لصلب الطبيب ونهش أحشائه في ساحة عامة!!

قبل أن تختار لتكون طبيبا تضع أمامك كل الاحتمالات: احتمالات الرّبح والخسارة. في أول يوم تخطو قدماك كلية الطب، ينطلق عدّاد ساعة رملية تزن بها رحلة في الزمن محفوفة المخاطر. كلّ حبّة رمل ورقة تسقط من عمرك.

لكن لماذا يتحوّل سقوط الطبيب إلى "كرنفال" شعبي؟! انهيار طبيب هو انهيار للقيم والإنسانية له دويّ صاخب، ونجاح طبيب بالمقابل بلا صدى، حتّى ألم الطّبيب ألمٌ صامتٌ، لا نتقاسمه، يتطابق النّجاح والألم في سلّة النّسيان، ولا نتقاسم إلّا انهياراته.
لكن هل تعرفون كم يكلّفنا سقوط طبيب؟ ما حجم خسارة طبيب في خريطة يهرب منها الأطباء عبر نافذة أو ثقب صغير؟ كم لبث من طبيب اليوم في وطن يرجم الأطباء: نصف طبيب لكل ألف مواطن والنزيف متواصل!!!!

فكّر عزيزي المواطن وصديقي المريض في هذا الاحتمال: وطن بلا طبيب ماذا يعني؟
لأننا فعلا أمام حقيقة صارخة ومؤلمة: الأطباء النبلاء كائنات في طور الانقراض!!!

وبه وجب الإعلام.