الأربعاء 1 مايو 2024
كتاب الرأي

محمد البالي: تلاعب سياسي (1)

محمد البالي: تلاعب سياسي (1) محمد البالي

في صدقية الخطاب:

مثل الخطاب السياسي موضوع اشتغال كثير من نظريات تحليل الخطاب، ولارتباطه الوثيق بحياة الناس وبمصالح الوطن، تعددت مناهج وطرق تحليله في عصرنا الراهن. ومنها من وضع قواعد تداولية، باعتباره أبرز مجال تواصلي يتطلب تحقيق مبدأ التعاون بين طرفيه. وصار هذا التعاون تواصلا من منظور الجدل التداولي. وانطلاقا من هذا المنظور وضعت مبادئ عامة ليلتزم بها المتكلمون المتخاطبون والمتجادلون والمتناظرون وينتظرون أو يتوقعون من مخاطبيهم الالتزام بها أثناء التواصل والتفاعل الكلامي. هذه المبادئ هي: الوضوح والأمانة والكفاءة والصلة.

وانطلاقا من هذه المبادئ، وضعت قواعد يتم الحكم من خلالها على الممارسات الخطابية الحجاجية لوصفها بالسليمة أو بغير السليمة، بمعنى آخر تمكن من الحكم على الكلام والخطاب بالمعقولية أو بالمغالطة. بمعنى تداولي، تمكن من تخليق الخطاب وتجنيبه مزالق الكذب على الناس. وللتوضيح، نقدم قواعد مؤسسة على مبدأ التعاون (في الاستلزام الحواري) وعلى مبدأ الاتصال (في الجدل التواصلي)، وتعتبر مطلوبة ليتحقق تواصل معقول:

ألا تتعدى إفادة المتكلم حاجة المخاطب.

ألا يقول ما يعلم كذبه، وما ليست لديه حجة عليه.

أن يكون مقاله مناسبا للمقام.

أن يكون كلامه موجزا وواضحا، ويتجنب الحشو والالتباس والتعميم.

أن يتجنب جملا غير ذات معنى.

ألا تكون أفعاله الكلامية مرتبطة بأفعال كلامية سابقة، للمتكلم أو للمخاطب، بشكل غير مناسب.

إنها بعض قواعد من مبادئ المعقولية في الحوار وفي النقاش وفي التخاطب، وخرق واحدة منها، أو أكثر، لسبب من الأسباب، يعني أن في الكلام أو الحوار أو النقاش مغالطة؛ أي أن المحاور أو المخاطب يمارس التغليط، وينحرف عن أصول الحوار ويعرقل التواصل السليم، ولا يستسيغ الاختلاف بحيث لا يقبل غير الاقتناع بوجهة نظره. وبذلك، فهو غير ملتزم ولا يعير اهتماما لشروط المسؤولية في الخطاب؛ وبذلك ينزلق ويحيد عن مقتضيات الممارسة الديمقراطية.

تلاعب لا لعب ولا لعبة:

 فاللعب، في لسان العرب: " ضد الجد... ويقال لكل من عمل عملا لا يجدي عليه نفعا: إنما أنت لاعب". ذلك لأن اللاعبين يتوقون إلى تحقيق المتعة قبل المنفعة.

 وإذا تجاوزنا دلالة لغوية للعبة، بمعنى الأحمق الذي يُسْخر به ويُلعب، تحيل اللعبة، أيضا، على ما يُلعب به، وقد لا تكون ضرورة حاجة اللعبة إلى كثرة لاعبين.

وتحتاج اللعبة قوانين متداولة أو متفق عليها بين طرفين أو أكثر، فتكون منظمة ضمن مسار قذ تكون نهايته مفاجئة، وهو ما يطبعها بالتشويق. ومن قيمة اللعبة حرية الاختيار؛ حيث يشارك الأطراف بمحض إرادتهم. لكننا نلفي غايات متباينة من وراء اللعب ومن أنواع اللعبة، اقتصادية وسياسية و...

أما التلاعب فانحراف وتغليط. ففي معجم المعاني الجامع: "تَلاعَبَ بِشَريكِهِ: ضَحِكَ عَلَيْهِ. تَلاعَبَ في عَمَلِهِ: أَحْدَثَ فيهِ خَلَلاً مَقْصوداً. تَلاعَبَ بِالكَلِماتِ في حَديثِهِ: حَمَّلَها مَعانِيَ مُخْتَلِفَةً". ويدل التلاعب على المناورة والاحتيال، ويهم مختلف المجالات؛ فنجد تلاعبات بالقوانين وتلاعبات في الأسعار. كما نلفي في التواصل غير المستقيم تلاعبات بالكلمات وبالعواطف... والتلاعب في المجال العام إفساد؛ فالتلاعب في مسير الانتخابات، مثلا، تحايل لتغييرها وإفسادها.

لعبة عامة ولعب خاص:

بعد تعميم مقولات، وتنميط سلوكات بآليات الترغيب والترهيب وخطابات التغليط، عبر عقود ومراحل زمنية، اعتاد الناس أحكاما جاهزة، منها اعتبار العمل السياسي المؤسساتي لعبة، لكنها لعبة مملوكة، مثل لعبة الطفل الذي يدعو أصدقاءه لمشاركته لعبته، حتى إذا تجاهله الأصدقاء، أثناء اللعب أو أصابه ملل أو عياء أو ناداه والده ومربيه، جمع لعبته وانصرف، وتركهم يتعاتبون متحسرين ومتذمرين...

لكن الناس، عامة، يذهب بهم القصد إلى صيغة منكرة للعبة السياسية، فيعتبرون المجال العمومي والسياسة العامة تسلية تنتهي بحسرة وتذمر. بيد أن المجال العمومي العام في حاجة إلى الرشد وإلى العقلنة لتحقيق مصالح مجموع الناس.

لذلك اعتبر فلاسفة ومفكرون، منذ الإغريق، السياسةَ أرقى أنواع الفكر العملي، ودعت الأديان إلى نشدان الفضيلة والصالح العام في السياسة والتدبير. هذا الفكر العملي هو تصريف أعمال تعود بالنفع على المجتمع، وهي أعمال تخص مجالات الحياة من تدبير اقتصاد وتطوير تعليم ورعاية صحة الناس وضمان سلامتهم وحفظ كرامتهم، وحماية الطبيعة لتحقيق توازن بيئي لتوفير إمكانات مستدامة تلبي حاجات الأجيال القادمة.

إنها، أي السياسة، في أول الأمر ونهايته، مسؤولية من أجل النمو والتقدم. ولن يتأتى هذا إلا بأناس  يضعون صوب أعينهم هذه الغاية، باعتماد وسائل تمكن من تحقيقها، حسب الظروف والإمكانات. أناس تتوفر فيهم معايير النزاهة الفكرية (التفكير في المصالح المرسلة سابقا)، والأمانة الأخلاقية؛ بحيث يتجنبون تسخير الإمكانات العامة لضمان امتيازات خاصة.

السياسة إذن، تفضيل العام على الخاص. والممارسة السياسية، من هذا المنطلق، خدمة عمومية. ولما كان واقع الممارسة السياسية، في المغرب، وفي بلدان متشابهة أو متقاربة في فكرها السياسي، يبدي جنوحا عن منطلقاتها، بفعل سلط اقتصادية أوبتأثير وعي منحرف أو عادات سائدة أو...، صار من أدوار المواطنين، باعتبارهم قصد السياسة، أن يتساءلوا ويرفضوا تحول السياسة دون تحقيق مصالحهم الجماعية. وصار من مهام المثقفين والباحثين بيان السلط المعيقة، وكشف ألاعيب الخطاب الذي يسوغ هذا الجنوح. ليتراجع المنحرفون بالسياسة إلى غير طريقها الواضح وليتهيب المتلاعبون بأهدافها النبيلة. وأيضا ليعتبر المنزلقون عن غير قصد ولينتبهوا إلى ما يعوق تحقيق المنفعة العامة.

وعليه، ارتأينا أن ننظر في أمثلة من الخطاب السياسي المغربي الراهن، علنا نقف على بعض مظاهر جنوحه، بغية التنبيه إلى مخاطر انزلاقاته على سمعة السياسة، وانعكاساتها على الوعي الجمعي، وآثارها السلبية على مستقبل الممارسة السياسية وعلى إمكانات الفكر العملي في حصيلة النمو والتقدم. (يتبع)

 

 باحث في الخطاب المغربي المعاصر