السبت 20 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الواحد الفاسي: علال الوطن

عبد الواحد الفاسي: علال الوطن عبد الواحد الفاسي

تحل هذه الأيام الذكرى السابعة والأربعون لرحيل الزعيم علال الفاسي إلى دار الخلد والبقاء. ففي يوم 13 ماي 1974 حضرته الوفاة وهو يرافع ويدافع ، في مكتب رئيس رومانيا نيكولاي تشاوسيسكو في بوخاريست ، عن قضيتين غاليتين لدى الشعب المغربي وهما قضية الوحدة الترابية والقضية الفلسطينية . لقد توفي لكنه لم يغادرنا أبدا ولم ينقطع عمله لأنه ترك علما ينتفع به ومهد لنا من خلال ما ترك الطريق الصحيح والنهج الأقوم من أجل العيش في ظل الحرية والكرامة.

" إن دواء الحرية صعب ولكنه وحده الدواء الصحيح "

       " يجب أن نسأل أنفسنا متى عدنا في الليل إلى فراشنا : ماذا فعلنا اليوم لأمتنا ؟ "

"عندما يتعلق الأمر بالاستقلال الوطني ، لا يكون التمييز بين المتطرفين والمعتدلين ، بل بين الوطنيين والخونة "

" لا يجوز للمواطن عندما يكون خارج الوطن أن يشوه سمعة سياسات بلاده ، حتى لو كان في المعارضة "

قام علال بتوليفة لجميع المبادئ والقيم التي تسترعي انتباهنا واهتمامنا : حب الوطن (patriotisme) ، ووحدة المغرب العربي، والعروبة، ولاسيما القيم الثقافية التي تستمد أسسها وتنطلق من الدين الإسلامي الحنيف.

إنه لمن الصعب - وليس بالمستحيل - محاولة تلخيص الجوانب المختلفة لفكر علال الفاسي السياسي والديني والفلسفي والمساهمات التي قدمها لتحديد وتأكيد الإنسية العربية والإسلامية . حيث كان فكره غنيا بتنوعه ومتميزا باجتهاده المجدد المستمر. وكل ما يمكن قوله وتأكيده بهذا الصدد هو أننا خضعنا جميعا - بشكل مباشر أو غير مباشر - للتأثير الجذاب  لهذا القائد الفذ المتفرد والمفكر العظيم والوطني الغيور.

لسنا هنا - في هذا الحيز وبهذه المناسبة - مدعوون إلى استعراض جوانب هذه الشخصية المتميزة بقدر ما نحن مطالبون بالتذكير ببعض أفضالها علينا وعلى الوطن بصفة عامة وبالتمييز بين حب الوطن كإحساس والوطنية كقيم وكممارسة عملية.

يمكن أن نقول أن حب الوطن هو شأن شبه وراثي بالنسبة لجميع المغاربة بحكم انتمائهم للوطن وهو ناتج - في بعض النواحي - عن عوامل مصدرها البيئة التي نشأنا فيها ، بينما الوطنية لا يمكن أن تكون إلا نتيجة للتربية عليها وممارستها وللتدريب والتعليم الذي يقتضي وجود مدرسة ومُدرِّس . ومدرستُنا ومُدرِّسُنا في هذا الميدان هو علال الفاسي الذي بيَّن لنا أنه إذا كان حب الوطن ضروري ويشكل أساس شخصيتنا ، فهو غير كافي. 

كان علينا أن نفهم أن حب الوطن الطبيعي يجب أن يتحول إلى وطنية متشددة وفعالة.  فحب الوطن يبقى شأنا عاما وجماعيا يتقاسمه كل المغاربة بحكم انتمائهم ، أما الوطنية فهي قيم ومبادئ وتضحيات لا نجدها إلى عند قلة أو صفوة من المغاربة . إنها تسمو درجات عن مجرد حب الوطن والشعور بالانتماء إليه.

لقد مكننا علال من الوصول إلى هذه النتيجة التي غيرت كل الموازين ، من خلال تعاليمه، فانتقلنا من مرحلة حب الوطن العاطفية والتأملية إلى الوطنية المناضلة . من الحنين والشعور العاطفي إلى الممارسة الحركية والعمل الملموس.

يجب أن نتذكر أن الجيل الأول بعد فرض الحماية كان عليه أن يواجه واقعا ومشاكل لم يكن مستعدا لها . وعندما وصل إلى مرحلة النضج السياسي احتاج إلى عقل مدبر ليمكنه من إظهار كل ما شعر به - بشكل مرتبك - منذ فقْدِ الاستقلال ، من التعبير عنه بشكل واضح ودقيق. احتاج إلى موجه ليدُلَّه ويهديه إلى طريق الخروج من هذا الاستلاب والارتباك وإلى الوسائل التي يجب أن يستخدمها المغرب لاستعادة استقلاله وسيادته ووحدته وكرامته.

كان الحدس الكبير لدى علال هو تزويد هذا الجيل بالوسائل التي تجعله مُدْركا وواعيا بوضعه وأسباب النضال التي من الضروري التعهد بها للتخلص من التبعية ، سواء بالقول أو بالقلم أو القدوة.

لم يتوقف علال أبدا عن العمل لتكوين ذلك الوعي الوطني الذي كان ينقل جيلا بأكمله من حب الوطن أو الوطنية في مرحلتها العاطفية ( حب الوطن ) إلى الوطنية المناضلة والعملية ( الكفاح من أجل الوطن ) .

يؤكد الذين تابعوا دروسه في القرويين ، ولاسيما حول السيرة النبوية ، أن هذه الدروس كانت مناسبة للتربية السياسية والإيديولوجية ، القائمة على الإخلاص للوطن ، والتعلق بالدين ، والإخلاص للعرش. وبما أن الحضور كان متنوعا ومكثفا ، فالفائدة كانت أعم. ونجد - بطبيعة الحال - كل هذه التعابير والمعاني في منشوراته وكتبه وقصائده الشعرية. وهكذا تكونت الثقة التي لا تزعزع والتي استطاعت أن تخلق الدوافع للعمل والتفكير في ملء الفراغ بالدروس والنصائح التي تؤدي إلى اليقين ثم خلق الأمل .

إذن لقد ساعد علال على ملء هذا الفراغ لدى جيل من الشباب كان يختلف عن جيل آبائهم الذين لم يكونوا يتصورون الكفاح إلا عن طريق السلاح . وبما أنه كان من المستحيل - تقريبا - الوصول إلى نتيجة في ذلك الوقت ، فقد كانوا ( الآباء ) يكتفون بالتضرع إلى الله عز وجل لينزل رحمته على هذا الوطن ويحصل على استقلاله.

لم يمنح علال تعليمَ الوعي الوطني اللازم فقط ، بل كان مثالا وقدوة للجميع. لم يكن يقبل أي تنازل في هذا الموضوع ولا مراوغة. عاش كمناضل وأراده القدَرُ أن يموت كمناضل.

هناك سمة أخرى من سمات شخصيته وهي أنه لم يكن يفصل بين الفكر والعمل . لقد كان منظِّما عظيما و رجلا  تطبيقيا بشكل خاص. ونحن مدينون له بهذا الوعي الوطني ، ولكن أيضا بالفضائل الكبرى لضمان نجاح عمل المقاومة التي كان يحتاج إلى التنظيم والعمل المستمر والمحكم .

لكل هذه الأسباب نحن مدينون لهذا الرجل الذي عرف كيف يغرس فينا وطنية علمية ملموسة ومنطقية. كما علمنا أنه لا يوجد حب للوطن بدون وطنية ولا نضال مجدي وفعال بدون تنظيم محكم ومستمر.

وفي النهاية أريد أن أُذَكِّر بهذا المقتطف من كتاب  النقد الذاتي :

" والشرط الثالث للفكر الصحيح هو التقدمية . فكل فكرة لا تعمل على توجيه الأمة صوب التطور والتقدم إلى الأمام هي فكرة عقيمة يجب رفضها ومحاربتها. إن حياة الشعب لا تتم إلا بمواصلة السير إلى الأمام ، والمتابعة التي قلناها أولاً لا تتحقق إلا إذا كانت غايتها قطع مراحل جديدة نحو المثل العليا. وإذن فيجب أن نقيس أفكارنا وأعمالنا بمقاييس التقدم الحقيقي وإلا وقعنا في كثير من الأخطاء التي تتدهور وترجع إلى القهقرى".

رحم الله الزعيم علال ووفقنا لاتباع توجيهاته التي تبقى آنية بل أصبحت أكثر إلحاحا وواقعية في زمننا هذا.