الثلاثاء 23 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (12)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (12) عبد الصمد الشنتوف مع مشهدان من مركزين تجاريين بلندن

نشتغل داخل الورشة لساعات طويلة دون كلل. ضجيج زاعق لآلات الخياطة والتقطيع يصم أذني. آلات تنعيم الأحذية تحدث لي طنينا في رأسي. حينما تمتزج كل هذه الأصوات في فضاء الورشة، تحدث صخبا وتلوثا ضوضائيا يشبه ضربات المطارق. أحيانا أضطر لأستعين بقرص مهدئ لأطرد صداعا يسكن رأسي.

 

عجلة الإنتاج تدور بسلاسة، والفريق كله يعمل في جو من الانضباط وتناغم تام. ملامح الرضا والنشوة بادية على وجه جورج، عينا هكتور ترصد حركاتي ولا تكف عن مراقبتي.

 

أشعر برزمة من الأفكار والأحاسيس تجتاحني، ثمة أشياء أود أن أبوح بها لسوزان .

انزوينا إلى زاوية ببهو المصنع واستغرقنا في حديث ثنائي. حدثتها عما قرأت في كتاب "أليس في بلد العجائب" للكاتب القاص لويس كارول، كما حدثتها عن الهندي راج صاحب كشك الجرائد. كنت بدأت التأقلم مع نمط الحياة الجديد في لندن رغم ما واجهته من تحديات. كان حديثنا وديا وحميميا إلى حد بعيد. مازالت سوزان تعيش حالة من التوتر والاضطراب بسبب ما يجري داخل بيتها، فأبواها باتا قاب قوسين أو أدنى من الانفصال. الأحداث بدأت تتسارع بشكل درامي وتتجه نحو الطلاق. طرأت مستجدات جديدة فأضحى بيتها يمر بأزمة حادة، سيما عندما سمعت أن والدها نصب محاميا لبدأ إجراءات قانونية. مشاعر الحزن والخوف طفحت على وجهها الملائكي. لا أحد يدري ما ستؤول إليه الأمور، هذا ما باحت لي به من أسرار عائلية صديقتي القبرصية.

 

خلال الحديث أفصحت لها عن الغاية من زيارتي لبريطانيا التي لم تكن من أجل الاستقرار الدائم. قلت لها أنني مجرد زائر عابر جاء به القدر إلى لندن من أجل العمل وجمع المال، زيارتي لن تتعدى شهرين أو ثلاثة على الأكثر. مع بداية أكتوبر سأضطر للعودة إلى المغرب لإنهاء دراستي.

 

التقط هكتور خصمي اللدود هذا الخبر عند مروره من البهو وقفز فرحا إلى جورج ليخبره. لم أعبأ كثيرا بالأمر، وتلك كانت الضربة القاضية التي سجلها في مرماي ذلك اللعين.

 

بدأ ينظر إلي جورج بشيء من عدم الارتياح، فوجهه لم تعد تعلوه تلك الابتسامة الدافئة حينما يراني. أحسست أن شيئا ما سيحدث، هكتور يدبر أمرا ما من وراء ظهري حيث بدا منتشيا وفرحا بما سمع، يفرك يديه الآثمتين وكأنه يستعد لإعلان الانتصار. لطالما انتظر هيكتور هذه اللحظة الثمينة، لقد وقعت في المحظور. حالة ارتياب وتوتر بدأت تكسو وجه سوزان، في حين داهمتني ملامح القلق أنا أيضا.

 

في المساء، عندما كنا نخطو أنا وسوزان بخطوات بطيئة نحو محطة المترو شرحت لي أن جورج لا يحبذ عمالا موسميين يراكمون بعض المال ويغادرون على حين غرة. وأضافت أن مصنعه الصغير هو عبارة عن سلسلة إنتاجية لا تتحمل توقف إحدى حلقاتها التي كنت قد أصبحت أحد ركائزها.

 

كان جورج يعتقد أنني صرت ثقابا ماهرا، أضع الثقوب بإتقان على قطع الجلد، لكن لم يدر في خلده انني سأغادر بعد بضعة أسابيع. لقد خاب ظنه في وأحس بالغبن والخيبة.

 

أخذت أجراس الرحيل تدق في مخيلتي، دقات قلبي في تسارع مضطرد وأحاسيس التوتر والنرفزة تجتاحني. شعرت أنني هو الخاسر الأكبر. سأخسر عملي، سأخسر حبيبتي سوزان أيضا، سأخسر كل شيء. كانت قصتنا الرومانسية مازالت في بداية طريقها. سوزان فتاة جذابة، تبادلني مشاعر العطف والعناية، لا يشعر بها إلا من ذاق طعم الحب والهوى.

 

 دعوت في نفسي على هكتور: (الله يأخذ فيك الحق يا هكتور!)، لقد كنت سببا في إسدال الستار على قصة حب مازالت وردة جميلة لم تتفتح بعد. قصة لم تعترف باختلاف الأديان والعادات ولا الفوارق الثقافية. بدأت بنظرة إعجاب وابتسامة بريئة منذ الوهلة الاولى. انجذاب إنساني وتلقائي كسر تلك القيود التي فرضتها المعتقدات والتقاليد.

 

سوزان لم تكن تراني مسلما أو عربيا متطرفا كما يروج الإعلام في أوروبا. فهي فتاة طيبة لا تحمل غلا للمسلمين على الرغم من الصراع الدائر بين الأتراك واليونانيين على أرض قبرص. لم تكن تتبرم مني عندما تراني ألتهم طبق "موساكا" اليوناني بيدي وأصابعي رغم الإتيكيت الغربي الذي يقتضي استخدام الشوكة والسكين، لأنها لم تكن تبالي بكل هذا مادام هذا الشاب العربي يستثيرها ويحبها. لم أكن أخجل من نفسي، كنت ألعق أصابعي عندما أفرغ من الطعام دون حرج، هكذا تربيت ونشأت في بلادي العربية.

 

ذات مرة حاولت أن أحاكيها، فأمسكت بشوكة وسكين وأخذت في تقطيع قطع لحم وخضروات. انهمكت في مطاردة قطعة اللحم، أضغط بالسكين فينزلق الصحن نحو طرفي الطاولة، فأتبعه، يكاد يسقط على الأرض فأتبعه مرة أخرى. أفشل في عملية التقطيع، فأستشيط غضبا. سوزان تكاد تنفجر من شدة الضحك، خلت نفسي أمثل لقطة من فيلم كوميدي. ضحكت سوزان حتى بدت نواجدها وكأنها تشاهد فيلم "عنتر شايل سيفه" لعادل إمام. حاولت تثبيت الصحن مرة أخرى في منتصف الطاولة، لكن عاندتني أصابعي، لا تجربة لدي مع الشوكة والسكين، فالأمر يتطلب بعض الدقة والتوازن لحظة التقطيع، إضافة إلى أنني كنت أضطر لاستعمال الشوكة بيدي اليسرى وهذا كان يؤرقني. انتفضت ذاكرتي وعادت بي إلى الوراء لما كنت طفلا صغيرا، تراءت أمامي أمي وهي تصرخ في وجهي بقوة: كل بيدك اليمنى أيها "المسخوط" ولا تكن مثل الشيطان يأكل بيسراه. ارتجفت، شعرت بقشعريرة تجتاح جسدي. بغثة توقفت عن الأكل لوضع حد لهذا البركان المضطرم بداخلي. قررت الاستسلام، ووضعت شوكتي وسكيني جانبا، رددت في نفسي: ما لي وما لهذا التكلف المتعب؟ فليذهب الإتيكيت إلى الجحيم. أنا هو أنا، سأتناول الطعام وفق ثقافتي وعاداتي التي نشأت عليها.

 

لم تكن سوزان تراني عربيا متخلفا كما قد يعتقد البعض، بل كانت تراني شابا مشبعا بثقافة مختلفة، طموحا يمتلك من المرح والعفوية ما لا يمتلكه ابن بلدها هكتور. كانت تقول لي: "لديك قدرة رهيبة على التواصل والاندماج، فأنت شاب عربي رائع". كنا نتحدث لغة القلوب ولغة التعايش إلى حد الرونق والاكتمال.

 

حل يوم الجمعة، الساعة تشير إلى الخامسة مساء، نبضات قلبي تهز جسمي وكأني في سباق المائة متر. لقد بدأ العد التنازلي، أوشكت ساعة النهاية.

 

نادى علي جورج وشرح لي لماذا عزم على توقيفي عن العمل، مع إبداء بعض الأسف. منحني ظرفا به مستحقاتي، ثمانين جنيها، وتمنى لي حظا سعيدا في مشواري الجديد. لم أغضب منه ولم أشعر بأي حقد تجاهه، فهو رجل واقعي يفكر بمنطق التجارة. شعرت بإحباط شديد وحسرة تمزقني، سأرحل إلى الأبد وبلا عودة .

 

مشيت أنا وحبيبتي سوزان في اتجاه محطة المترو. صمت القبور يخيم علينا. بدت الحياة حزينة من حولي وكأنني في موعد مع يوم إعدامي. تمنيت أن أفقد ذاكرتي. انتحينا إلى زاوية هادئة ببهو المحطة. تفرست في وجهها دون أن أقول شيئا وكأنه ربط على لساني. أمعنت فيها النظر أكثر فلم تنبس ببنت شفة، بدت هائمة على وجهها وقد زمت شفتيها من الألم، عيناها دامعتان، لحظات قاسية ومؤثرة. أخرجت سوزان ورقة من حقيبتها اليدوية وناولتني إياها، كتبت عليها رقم هاتف منزلها. تعانقنا بحرارة واحتضنتها بقوة، انحبست الدموع في مقلتي عيوني. مشيت نحو القطار مكسور الخاطر. شعرت بمرارة الهزيمة، رفعت عيوني إلى السماء متضرعا وصرخت بأعلى صوتي: هزمني، هزمني. اللعنة، اللعنة عليك يا هكتور!...