الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: الحياة وإعمارُ الأرض

أحمد الحطاب: الحياة وإعمارُ الأرض
عندما نتحدث عن الحياة، أول فكرة تخطر بالبال، هي الحياة بمعناها البيولوجي علما أن الحياةَ، بمفهومها الواسع، هي كل ما يؤثِّث الفضاءَ الذي يعيش فيه البشرُ ويُحرِّكُه ويُنشِّطه ويجعله قابلا للتَّعايش و التَّساكن. وإذا كانت حياة الآنسان، ببُعدها البيولوجي، تحتاج للماء و الهواء والأكل لتستمرَّ، فالحياة، بمعناها الواسع، تغيَّرت و تتغيَّر مع تطور الإنسان فكريا واجتماعيا. فإذا كانت حاجيات الإنسان الأول homme primitif بسيطةً بحكم اعتماده على الصيد و جني التِّمار وصُنع بعض الأدوات من الحجر والعظام والخشب، فحاجيات الإنسان العاقل homo sapiens، منذ ظهوره على وجه الأرض إلى يومنا هذا، تطوَّرت إلى حدٍّ كبير، أولا، بسبب تكاثر أعداده، ثانيا، بسبب عيشِه في مجتمعات منظمة، الكلُّ بسبب تطوُّر العقل و الفكر على مستوى الأفراد و الجماعات.
وهكذا، فإن حياة الإنسان العاقل، ببُعدها الواسع، أصبحت لها مظاهر اجتماعية، اقتصادية، مالية، سياسية، ثقافية، تعليمية، أدبية، لغوية، أخلاقية، فلسفية، بيئية، صناعية، تنافسية، حِرفية، مِهنية، تجارية، تسويقية، فكرية، علمية، تقنية، تكنولوجية، عقائدية، دينية، روحية، حضارية، فلاحية، صِحية، تواصلية، إعلامية، تكاملية، إنتاجية، بُنْيانية، استهلاكية، عسكرية…
مما لا شك فيه أن الحياة المُعاصرة، بمعناها الواسع، تعدَّدت و تعقَّدت و تشابكت مظاهرُها مقارنةً مع ما كانت عليه في الماضي القريب والبعيد. لكن، ألا يجدر بنا أن نطرحَ السؤال التالي : "أليست هذه المظاهر المعقَّدة و المتشابكة هي التي قادت و تقود إلى إعمار الأرض؟ بكل تأكيد أن هذه المظاهر, التي هي من صُنع الإنسان العاقل، هي التي عمَّرت الأرضَ و لا تزال تُعمِّرها مصداقا لقوله سبحانه وتعالى في سورة هود، الآية 61 : "...هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...".
غير أن الله جل جلالُه، عندمآ أمر الإنسانَ أن يُعمِّرَ الأرضَ، المقصود هو الإعمارُ الذي فيه صلاح ومنافع للناس. وهنا، على الإنسان أن يطرحَ هذا السؤال على نفسه : "هل فعلا كل مظاهر الحياة، بمعناها الواسع، عمَّرت الأرضَ بما فيه فقط صلاحٌ ومنافع للناس؟
الجواب على هذا السؤال واضح وضوحَ الشمس : لا ثم لا! لماذا؟ لأن الإنسانَ، عند قيامه بأعمال إعمارِ الأرض، لم يتخلَّص من أنانيته ومن جَشَعه ومن ميولِه إلى استغلال مُفرطٍ لخيرات هذه الأرض ولاستعبادة استعبادا فاحشا لأنداده والسيطرة عليهم. والأدلَّة في هذا الشأن كثيرة ومتنوعة، أذكر منها على سبيل المثال: استمرار وجود الفقر و الفوارق الاجتماعية و الجهل والحروب وسيطرة القوي على الضعيف وغياب توزيع الثروة بإنصاف و خَلْق مشكلات بيئية ضخمة بسبب الاستغلال المفرط وغير العقلاني للموارد الطبيعية واللجوء إلى تكنولوجيات مخرِّبة للبيئة. من بين هذه المشكلات البيئية الضخمة، أذكر تغيُّرَ المناخ وتراجعَ التنوع البيولوجي واستنزافَ التربة والغابات و تلويثَ الماء والجو و البحار…
وبما أن لكل شيء وجهان، وجه إيجابي ووجه سلبي (هذه سنة الحياة)، فعلى الإنسان أن يراجع نفسَه ونظرتَه إلى الأرض ليُعمِّرَها بما فيه صلاح ومنافع له و لأنداده و بأقل الأضرار. وعليه كذلك، في هذا الصدد، أن يعيدَ النظرَ في مفهومي التنمية والاقتصاد. فلإنسان الذي اخترق الأجواء ووصل إلى الكواكب وإلى أعماق البحار وقصَّر المسافاتِ والوقتَ و لطَّف ما هو شاق... قادر على إعمار الأرض بما يقتضيه العقل و صلاح البلاد والعباد.