الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الإله حبيبي: تدجين الكينونة البشرية

عبد الإله حبيبي: تدجين الكينونة البشرية عبد الإله حبيبي
تكاد الكينونة تختفي كليا في حُجبِها المتعددة.
لم تفتر الخطابات يوما عن حجب الكينونة البشرية بمعاول اللغة وكل تقنياتها المعروفة، تمنحها أسماء وتحدها بتعاريف عامة ومجردة، وذلك لتفرغ جواهرها في قوالب بلاغية متعارضة أحيانا، ومتضامنة  في أحايين أخرى لهدف واحد يتجلى في إخفاء الوجه السافر لكينونة ظلت غائبة انطولوجيا وحاضرة خطابيا في تلوينات متعددة ولبوس فنية وتشخيصات بصرية، تارة مجردة وتارة حسية مبتذلة، لكن السمة الغالبة على كل هذه الأفعال التوصيفية هي الرغبة الخفية في تدجين الكينونة البشرية من خلال توثيقها بمعايير وضمائر ومراجع تحولت إلى كيانات مستبدة أخذت مكان هذه الكينونة وضاعت هذه الأخيرة في ثنايا الأولى...
يجهل الإنسان اليوم حقيقته، يفقد وسائل العثور على صورته الأصلية، يتعثر في معاجم كثيرة، ينتهي بتقديم استقالة البحث عن نفسه، يسلم ذاته لمن يمتلكون قدرات تمويهية ووسائل تكنولوجية وإعلامية كبيرة ليصنعوا له ملامح توافق الصورة التي ينبغي أن يضعوا كل الناس فيها بغض النظر عن أصولهم العرقية وميولاتهم الفكرية وألوان بشرتهم ومعتقداتهم الدينية...
الكينونة هي الطبيعة البشرية الأصلية التي طالما تحدث عنها الفلاسفة وخاصة أولئك الذين نظروا لمفهوم الدولة المدنية في علاقتها بالطبيعة البشرية، وقد أنتج هؤلاء خطابات فلسفية متعددة لم تكن قادرة على تجاوز ثنائية الخير والشر، أي في حدود لسؤال التالي: هل الدولة تقوم لترويض الحيوان الكامن في الإنسان، أم لتطوير القدرات العقلية والمؤهلات الأخلاقية الكامنة بالضرورة الانطولوجية في هذا الكائن المتطور بالمقارنة مع باقي الكائنات الأخرى... كل الخطابات المؤسسة لمفهوم التعاقد الاجتماعي والسياسي لم تنفك تؤسس مفاهيمها للدولة والحرية والعدالة والديموقراطية انطلاقا من تحديد مسبق للطبيعة البشرية...
على الرغم من التقدم الفكري الهائل الذي حققته تيارات العقد الاجتماعي في مرافعتها عن الإنسان المنفصل عن السماء وجودا ومصيرا، والمتصل بالعالم عقلا وتفكيرا والمتضامن مع شبيهه أخلاقيا، ظل السؤال قائما حول مآل هذه الطفرة الفلسفية والعلمية التي حررت الكينونة من لاهوت ظلامي ساد لفترة طويلة عقديا وسياسيا ورسخ تعالي المطلق ومفارقته للكينونة البشرية المنتشرة على الأرض والمانحة للزمن قاطنا  مفاهيميا قويا؛ أي التاريخ بكل محتوياته التي هي من صنع السياسة والحرب والمكر والمصالح والرغبات، بمعنى أن التاريخ شاهد آمين على أن الكينونة البشرية هي ما يتجلى فيه وليس ما تضعه الخطابات اللاهوتية والميتافيزيقية من توصيفات هي في عمقها مدن فاضلة ومعايير أخلاقية لما ينبغي أن تكون عليه كينونة الإنسان الغارقة في الأرض والمنافع والحاجات والملكية والسلطة وكل ما يتبعها من غنائم وحروب وأفراح وطقوس النصر والحمد والاحتفاء بالقوة وبالحشود المعجبة بالسيطرة والسبي والسلب ومراكمة الأرباح والسلع والأراضي والأموال...
يعود العالم اليوم إلى خلق تقاطب بين خطابين يهمان الكينونة البشرية، الأول حربي صناعي فضائي عسكري، نووي، معرفي، تكنولوجي، مدمر ورافض لكل منافسة أو حتى معارضة سلمية، والثاني، روحي في شكله الخارجي، معادي للاستهلاك، مترفع عن الادمانات التي كرستها الرأسمالية التجارية، منغلق على نفسه، وتاريخه، وقوي في التعبئة والحشد، والانتشار، يرافع من أجل كينونة بشرية متصلة بالمطلق في حدود العقيدة الثابتة بالخلق من لدن إله واحد، وراسما معالم مصير للبشرية ككل، يتوعد ويعد، ولا يتورع عن استئجار كل الوسائل التكنولوجية التي يستعملها غريمه من أجل التوسع والاستقطاب والظهور، كما يستلهم نماذج ثورية قديمة وحديثة بغض النظر عن أصولها الإيديولوجية بهدف توظيفها في سياق تطوير دفاعاته الإيديولوجية وتقنياته التنظيمية...
الكينونة البشرية دوما محتلة، ومرهونة بخطابات ومشاريع كبرى تتحكم فيها قوى تعرف جيدا الحقل الإنساني ونوعية البذور التي تليق بإعادة تعديله وتغيير اتجاهاته ومعالمه لجعله قابلا لكل استعمال وتدجين...ومزيدا من حجبه عن الظهور والتحرر والترقي واستعادة كينونته المستلبة ...