الأربعاء 24 إبريل 2024
سياسة

تغيرات المجال بفكيك: من الشساعة والحيوية إلى التقليص والانطواء

تغيرات المجال بفكيك: من الشساعة والحيوية إلى التقليص والانطواء عبد الرحمان الحرادجي مع مشهد من إحدى الواحات بفكيك

تشهد المناطق الحدودية الشرقية غليانا حادا بسبب استفزاز الجزائر للفلاحين المغاربة ومطالبتهم بمغادرة ضيعاتهم بمنطقة العرجة بضواحي فكيك بدعوى أن الأرض تابعة لتراب الجزائر وليس للمغرب. السلطات الجزائرية حددت يوم 18 مارس 2021  كآخر أجل لفلاحي العرجة للتخلي عن الأرض تحت طائلة الاعتقال، وهو ما ولد انفجارا احتجاجيا بفكيك ومسيرات جابت شوارع المدينة، خاصة وأن حكومة العثماني لم تخرج ببلاغ توضح حقيقة الوضع وعلاقته بترسيم الحدود مع العدو الجزائري من جهة وكيفية تعويض المغاربة المتضررين تعويضا متصفا خاصة وأنهم كانوا يستغلون الأرض منذ عقود.

في هذا السياق تعيد "أنفاس بريس" نشر دراسة الباحث عبد الرحمان الحرادجي (أستاذ الجغرافيا بجامعة محمد الأول بوجدة)، حول تمدد المجال بواحة فكيك وتأثير ذلك على اوضاع الساكنة:

 

لقد دأب سكان واحة فجيج على استغلال منتظم ومستمر لمجال شاسع يحيط بقصورهم خلال عدة قرون مضت. وقد كان هذا المجال الجغرافي بموارده المختلفة يفي بالعديد من حاجات السكان الرحل والمستقرين على السواء، فتكاملت فيه أنشطتهم الاقتصادية من صيد ورعي وحرث واحتطاب وجلب مواد البناء والصناعات وغيرها. وكان هذا الوضع قائما على مر العصور بالرغم من التقلبات السياسية والأمنية، ولم تستطع أي سلطة قبل الاستقلال أن تقلص تحركاتهم أو تقيدها، بما في ذلك سلطة الاحتلال الفرنسية. غير أن فترة ما بعد الحماية بالمغرب وما بعد الاستعمار بالجزائر عرفت سياسات غيرت مجرى الأحداث بالمنطقة، مما أسهم في تقليص "المجال المعيش" لأهل فجيج ومحيطها.

 

كان سكان فجيج يعيشون في فضاء يبلغ قطره عدة عشرات من الكيلومترات، ممتدا حول الواحة المركزية في كل الاتجاهات، ولم يكن يزعجهم في ذلك سوى المناوشات مع القبائل الرعوية خلال فترات القحط الشديد، حيث كان الرحل أحيانا يشنون غارات على القصور ويقطعون الطرق أمام سكانها. أما خلال الظروف العادية فكانت العلاقات عموما بين "الأعراب" و"القصوريين" في غاية الانسجام والطمأنينة، يطبعها التبادل التجاري، بل كانت تتجاوز ذلك أحيانا لتصل إلى مستوى الشراكة في الإنتاج حرثا ورعيا.

 

حاول الأتراك العثمانيون إخضاع منطقة فجيج أكثر من مرة دون جدوى، ثم جاء دور الاستعمار الفرنسي للجزائر ليتوغل غربا، فكان من الطبيعي أن يمر عبر استكشافات ومناوشات عديدة أخرت المشروع الفرنسي، وقد شكلت منطقة فجيج أحد الممرات الإجبارية للاستعمار الفرنسي من أجل الربط بين مستعمراته شمال الصحراء وجنوبها. ذلك أن امتداد رمال العرق الكبير الغربي في التخوم المغربية لم تسمح بتمرير الطرق البرية إلا فوق التراب المغربي بإقليم فجيج. وهكذا عبر الكثير من أقطاب الاستعمار الفرنسي في مناسبات عدة عن رغبتهم في غزو فجيج وألحوا على ضرورة احتلالها، ليتأتى لهم المضي في استكمال مشروعهم الإمبريالي.

 

لقد قاوم أهل فجيج هذه الأطماع وصدوا المستعمر قدر ما استطاعوا وقدموا في ذلك تضحيات كبيرة لم تستطع القُوى الغازية مواجهتها إلا بمدفعيتها الثقيلة التي أفرغت مئات القذائف على أكبر قصورهم، مدمرة عددا من المساكن والمنشآت، بما فيها صومعة المسجد الكبير. وهذا يؤكد مدى وطنية أهل فجيج ومدى تشبثهم بمغربيتهم التي لم يستطع المستعمر بعد ذلك أن ينزعها عنهم، بالرغم من قيامه باستباحة أراضيهم لإقامة السكة الحديدية فوقها. وهكذا أصبحت هذه السكة بمثابة مسمار جحا، مؤشرا على بقاء المستعمر طالما بقيت، فكان عليه أن يؤمن بقاءها ليضمن بقاءه.

 

وفي خضم ذلك اعترف المستعمر بصريح العبارة أن لأهل فجيج ممتلكات وأراض يمكنهم أن يستغلوها شرق السكة الحديدية كما جاء في بروتوكول 1901 الموقع بين المغرب وفرنسا، حيث ينص في مادته الثالثة على أن "أهالي قصور فجيج وقبيلة لعمور الصحراء يستمرون في استغلال مغروساتهم وحقولهم ومراعيهم وغيرها كما في السابق وإذا كانوا يملكون منها وراء السكة الحديدية من جهة الشرق يمكنهم استعمالها كليا كما في السابق من غير أن تُخلق لهم عرقلة أو منع"، بينما ينص الفصل السادس على "حرية التصرف في الممتلكات والمغروسات والمياه والحقول وغيرها التي قد يملكها مواطنو أحد البلدين في تراب البلد الآخر".

 

وبعد استعمال التهديد والردع ميدانيا لاقتطاع منطقة توات من تراب النفوذ المغربي، من قبل الاستعمار الفرنسي إثر احتلالها، استعملت كل أساليب المكر والخديعة في النصوص من قبيل اعتبار منطقة فجيج أرضا "لا مالك لها" حسب نصوص معاهدة مغنية، وبالتالي أحقية انتمائها لأول محتل، وهو فرنسا وليس المغرب الذي استمر نفوذه فيها حتى في ظل التغلغل الفرنسي. وللإجهاز على ما تبقى من هذا النفوذ نص الفصل الخامس من اتفاقية 1901 على "وضع سكان كل المناطق غير المحددة في معاهدة مغنية أمام اختيارين: إما الانتماء للسلطة الفرنسية فيبقون في ديارهم وإما الانتماء للسلطة المغربية فينقلون إلى حيث ستثبتهم هذه السلطة المغربية مع إمكانية احتفاظهم بممتلكاتهم وتدبيرها بواسطة وكلاء أو بيعها لمن يريدون و يمكن لسكان قصور هذه المناطق أن يختاروا إدارتهم وفي كل الحالات يستطيعون الإقامة في أراضيهم".

 

وإذا كانت هذه النصوص باطلة لأنها فرضت تحت الضغط واستعمال القوة، فإنها تؤكد امتلاك الفجيجيين لأراض محتلة لم يتخلوا عتها أبدا. فحتى بعد استقلال الجزائر اعترفت السلطة الوطنية الجديدة بهذه الملكية، فحصل أهل فجيج على رخص المرور بانتظام إلى ممتلكاتهم شرق السكة الحديدية. لكن الفلسفة الجديدة الغريبة لهذه السلطة قالت بعد ذلك إن "الأرض جزائرية، وما عليها ملك لأهالي فجيج" (!) فمتى قام أهل فجيج باستغلال أراض لا يملكونها، وهم الذين ورثوها أبا عن جد منذ فترات لم يسمع خلالها أبدا بوجود سلطة أو هوية جزائرية بالمنطقة؟ فحتى فرنسا التي كانت لها أطماع لا حدود لها اعتبرتها "أرضا لا مالك لها" في نصوص ماكرة من أجل التحايل على السلطة المغربية التي لم يشعر الفجيجيون أبدا بعدم الانضواء تحت لوائها. فهل يحق اعتبار أرض لا مالك لها وهي تستغل رعيا وصيدا واحتطابا وحرثا وتحمل منشآت وأبنية، بل وتباع وتشترى بوثائق، مؤرخة قبل قرون، ما زالت في حوزة مالكيها؟

 

لقد استمر سكان فجيج في استغلال أراضيهم وممتلكاتهم شرق ما سمي بالحدود "المغربية الجزائرية"، بوتيرة كانت تُمليها ظرفية التقلبات التي طبعت العلاقات بين البلدين المتجاورين بعد استقلال المغرب وبعد استقلال الجزائر، بل وحتى بعد المواجهة المسلحة المعروفة بـ "حرب الرمال"، والتي اندلعت بينهما سنة 1963 والتي استمرت مدة أربعة أيام. فهذه الحرب نفسها نشبت على أساس امتلاك أهل فجيج -وهم مغاربة- لأراض أصبحت السلطة الجزائرية تهيمن عليها بذريعة أنها وريثة ممتلكات الاستعمار الفرنسي، بما فيها تلك الأراضي التي تعود ملكيتها الفعلية والحقيقية للمغرب وسكانه. ومن المعروف أن الإدارة الاستعمارية كانت قد احتفظت بهذه الأراضي لأسباب أمنية واستراتيجية ظنا منها أن بقاءها بالجزائر بات أمرا مستديما. وبناء على هذا الاحتمال، ارتأى المحتل أن يؤمّن هذا الممر الإجباري ويراقب تخومه، وإن كان ذلك على حساب التراب المغربي، في غياب بديل فوق تراب كله رمال لا يمكن السيطرة على حركيتها.

 

هكذا كانت السلطات الجزائرية تسمح فعلا لأهل فجيج باستغلال ممتلكاتهم خلف تلك الحدود الموروثة عن الفترة الاستعمارية خلال الستينيات وإلى أواسط السبعينيات من القرن العشرين، تلك الممتلكات الواقعة وراء الطريق والسكة الحديدية الرابطتين بين بشار والعين الصفراء (طاسرا وجنان الدار وبني ونيف والمعدر والنخلات وغيرها...) أو بجوارها أو بالقرب منها (تاغلة وتامزوغت والمراجي وأمسلو والملياس وتاغيت وأمغرور وغيرها...)، بل مارس أهل فجيج سيادتهم كاملة بانتظام على ممتلكاتهم من الأراضي الواقعة غرب الطريق والسكة الحديدية (إغزر أشرقي واتزيرَت وتامزوغت وتاغلة والمراجي وأمسلو وأمغرور).

 

وإثر أحداث مارس 1973، عندما تعرضت واحة فجيج إلى ما يشبه "الاحتلال" أو "الإنزال" أو "حالة الطوارئ" غير المعلنة، حدث ما لم يكن في الحسبان، عندما أصبحت السلطات العسكرية المغربية تمنع مرور أهل فجيج نحو ممتلكاتهم خارج الواحة المركزية إلا بتقديم رخصة خاصة تسلمها السلطات المحلية. وقد استمر هذا الإجراء إلى أن منعت الجزائر على أهل فجيج المرور بشكل مطلق نحو الضفة اليسرى لوادي زوزفانة إلى حدود فج تاغلة حيث منع المرور نحو الضفتين معا، وكذلك المرور نحو بساتين تاغيت والملياس، مهددة إياهم بالسلاح في أواخر أكتوبر 1976، مع تفاقم أزمة الصحراء المغربية إثر تبني الجزائر لموقف معاد للوحدة الترابية المغربية أدى إلى تعقيدات جيوسياسية خطيرة.

 

لقد رضخ المغرب لهذا المنع وهذه الاستفزازات تجنبا لأي صدام مسلح بهذه المنطقة الحساسة، إلا أن انعكاسات هذا الموقف السلبي كانت وخيمة على سكان فجيج، حيث فقدت العديد من العائلات موارد عيشها وتقلصت مداخيل الأسر مما أدى إلى ارتفاع وتيرة الهجرة، خاصة مع غياب أي تعويض أو بديل عن الممتلكات الضائعة وتقلص الأمل في استعادتها أو إمكانية استغلالها من جديد، يوما بعد يوم، سيما وأن مالكيها المتوفرون على وثائق الإثبات لم يبادروا بالتخلي عنها بأي شكل من الأشكال القانونية بيعا أو تفويتا أو تنازلا. ومن المعروف أن كثيرا من العائلات فقدت آنذاك مورد عيشها الوحيد...

 

ماذا فعلت الدولة المغربية إزاء هذه الأوضاع؟ هل كانت مواقفها في مستوى متطلبات الذود عن حرمة الوطن والسكان والممتلكات؟ ماذا كان جزاء من تمسكوا بهويتهم الوطنية المغربية ودافعوا عن مغربية هذه المنطقة النائية التي ظلت محط أطماع الغزاة من الأتراك إلى الفرنسيين ووارثيهم؟ هل قامت بما يسمى "إنقاذ الواحة" فعلا؟ تلك الواحة ذات التاريخ العريق، والتي قدمت تضحيات وخدْمات وأنجبت مقاومين ومناضلين وأطرا في مختلف الميادين والقطاعات...

 

إذا كانت هذه الأسئلة مشروعة على لسان كل فجيجي، فالأجوبة لا تتوفر لدى ذوي الاختصاص وحدهم، سيما وأن الإمعان في بعض المبادرات قد يُحبط أي محاولة للبحث عن الإجابات: بعدما تقلص المجال الجغرافي لواحة فجيج وسكانها من جهات الشمال والشرق والجنوب مع مخلفات الاستعمار وسلبيات المواقف الرسمية، جاء دور الجهة الغربية التي ستقتطعها سياسة "الإدارة الترابية" لتنشئ فوقها جماعة جديدة ما زال فراغ مركزها ينفي جدارة إنشائها منذ أزيدَ من ثلاثين سنة... وهكذا يتم تقزيم المجال الفجيجي الذي كانت تنصهر فيه مختلِف القصور والمجموعات البشرية من إيش والعمور وبني گيل وأولاد جرير وذوي منيع وغيرهم ممن كانوا يُسهمون في حيويته بتكامل أنشطتهم، إلى جانب تجريده من وظيفة إدارية مارسها فيه "عامل فجيج" حتى إبان فترة التغلغل الاستعماري...

 

(ملحوظة: مقال سبق نشره في العدد الأول من جريدة "منبر فجيج" 2005)