الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد بوبكري: في الجذور التاريخية للفساد بالجزائر

محمد بوبكري: في الجذور التاريخية للفساد بالجزائر محمد بوبكري
يرى المهتمون بتاريخ الجزائر أن الأزمة العميقة في هذا البلد ليست أزمة تقنية في التسيير فقط، بل إنها أزمة بنيوية تعود جذورها إلى استقلال البلاد وتضرب عميقا في جذور النظام السياسي، حيث انطلقت الجزائر حينذاك انطلاقة خاطئة، إذ للأزمة تاريخ طويل.
فلما حصلت الجزائر على استقلالها بفضل مجهودات حركة التحرير وتضحياتها، اعتقد أحمد بن بلة وهواري بومدين وأنصارهما أن الاستقلال قد حل كل المشاكل، وهو ليس بالضرورة رؤى ومؤسسات ومشاريع تهم كافة القطاعات... وهذا ما أدى إلى سيادة العنف والقتل من أجل الاستئثار بالسلطة، فانتقلت الجزائر من الأزمة إلى عاهات مستديمة... 
فإذا أخذنا، على سبيل المثال، الفساد بكل أبعاده السياسية والقيمية والثقافية والمالية، وجدنا أنه ليس وليد اليوم بل هو جزء مركب لبنية الحكم، أي أنه عنصر جيني مؤسس لبنية نظام الحكم في الجزائر، كما أن منظومة الرشوة لها علاقة بنظام الحكم، وليست نتيجة لفشل في التدبير، بل إنها عنصر مؤسس لنظام الحكم، ما نجم عنه انتقال الجزائر من الأزمة إلى العطب التاريخي.
فالرشوة لا يمكن اختزالها في تقنية التحايل على القانون، بل إنها من مكونات البنية الجينية لنظام الحكم المبني على الريع والعنف والقمع والنزعة الجهوية، وإحدى تجليات فساد بنيوي للنظام بأكمله.
لقد تأسست الحركة الوطنية الجزائرية أيام الاستعمار في ظل تعددية، فكونت نخبة جيدة جدا، حيث أنتجت هذه الحركة الوطنية تعددية، لكن الحاكمين بعد الاستقلال أجهضوها، ولم يكونوا نخبا، بل عملوا على الحيلولة دون تكونها، كما أن رجالات الحركة الوطنية الجزائرية الأصيلة التي كافحت من أجل الاستقلال وعلى رأسهم المرحومين محمد بوضياف وفرحات عباس وآيت أحمد وآخرين كانوا قد انتقلوا إلى المعارضة قبل تأسيس الجمهورية الجزائرية، لأنهم كانوا يطرحون ضرورة تطوير مشروع سياسي ومجتمعي متكامل لمرحلة ما بعد الاستقلال، لكن، على العكس من ذلك، فقد قاد نظام العنف والقوة إلى إجهاض تطوير هذا المشروع، حيث كانت هناك ثورة مضادة للثورة الجزائرية التي حررت البلاد من سيطرة المستعمر. لقد كان رجالات الحركة الوطنية يطرحون مسألة الشرعية السياسية والتعددية، لكن نظام أحمد بن بلة وبومدين وأتباعهما لجأ إلى العنف لإجهاض أحلام هؤلاء الوطنيين الكبار، حيث وظف بومدين ما كان يسمى بـ"جيش الحدود للاستيلاء على السلطة واحتلال الجزائر، وفرض أحمد بن بلة رئيسا، لأن تكوينه الثقافي والسياسي لا يمكنه من أن يؤهله لأن يؤمن بالشرعية السياسية، ولا بأي مشروع سياسي مجتمعي، فكان مؤتمر طرابلس الذي كرس جبهة التحرير حزبا واحدا ووحيدا. وبذلك استكمل بن بلة وبومدين وأتباعهما ثورتهم المضادة لروح الثورة الجزائرية التي كانت وراء استقلال الجزائر، وحوّل أحمد بن بلة وهواري بومدين الثورة إلى ثورة مضادة لروح ثورة الحركة الوطنية الجزائرية الأصيلة، حيث انقلبوا على رجالات الحركة الوطنية الكبار الذين خرجوا إلى المعارضة قبل تأسيس ما يسمى بـ" الجمهورية الجزائرية...". وبذلك، انقلب بن بلة وبومدين وأتباعهما على الجمعية التأسيسية، وتمكنوا من وضع دستور على المقاس ينهض على الشخصنة السياسية في علاقته بالشعب، ولا يؤمن بمفهوم الدولة، ولا بالحداثة، ولا بالشعب... هكذا سادت العسكرة التي هي أصل الفساد في الجزائر. وقد تعمقت هذه العسكرة في عهد عبد العزيز بوتفليقة الذي كانت له علاقة مرضية بالسلطة، حيث كان يرفض الشعب والدستور.. وهذا ما نتجت عنه العاهات التاريخية الجزائرية الراهنة، حيث تضمن دستور 1963 المؤسس للنظام السياسي الجزائري مادة تقول: إن الحزب والقوى التي يحكم البلاد مسؤول عن طموحات الجماهير الشعبية، ما يعني أنه على الشعب ألا يفكر بنفسه لنفسه، وألا يكون سيد نفسه، لأنه تحول على يد بومدين إلى مجرد كائن يأكل وينام وينجب، إذ ينظر هذا الدستور إلى أفراد الشعب بكونهم مجرد حيوانات لا تفكر ولا تمتلك القدرة على تحديد طموحاتها وتطوير اختياراتها. وبذلك تم فصل الإنسان الجزائري عن إنسانيته. هكذا تم ترسيخ العسكرة والعنف والحزب الواحد. وهذه هي جذور الداء والفساد بشتى أنواعه، إذ تم رفض فلسفة التناوب ونبذ الفكر والمفكرين، وكره العلم والإبداع والفنون، ما حال دون بزوغ الدولة الحديثة، فصار النظام السياسي الجزائري على نهج النظام الكولونيالي في إدارة الدولة، لأنه يريد إقامة دولة بدون مؤسسات، ولا يرغب في التداول على السلطة، ولا في التعددية، وفي المقابل يريد أن تتداول ذاته على ذاته. تبعا لذلك، لا يمكن بناء اقتصاد بالريع، حيث إذا كان القانون المالي يعرض على البرلمانات للتفكير في كيفية رفع نسب النمو، فإن القانون المالي في الجزائر لا يهتم بالنمو، بل إن هاجسه هو كيفية توزيع الريوع.
وفي ظل العسكرة وما تفرضه من مناخ ثقافي وسياسي، لا يمكن الحديث عن القضاء المستقل، أو الرقابة البرلمانية، حيث يلعب الجيش دورا أساسيا في السياسة وفي كل المجالات؛ فهو من يقوم بتعيين الرؤساء والمسؤولين الكبار في الدولة، ويقرر في كل شيء، ما جعله هو الدولة نفسها. فهو ضد بناء الدولة الحديثة الديمقراطية، حيث أجهض بناءها. وإذا كان الجيش هو أصل الفساد، فإنه لا يمكن للمفسد أن يتحول إلى مصلح. وهذا ما جعل النظام الجزائري يستثمر في التخلف المستدام، حيث يوظف كل إمكانات البلاد في استدامة التخلف، ما قد يؤدي إلى انهيار الدولة وتفسخها.
فعندما فرض جنرالات الجزائر عبد العزير بوتفليقة رئيسا للبلاد، اجتمع هذا الأخير بما يسمى بـ"المجلس الأعلى للقضاء"، وخاطب أعضاءه قائلا: "أنا أنتمي إلى جيل يؤمن بمركزة كل شيء، ما جعلني لا أومن باستقلال القضاء، ولا بالفصل بين السلطات..." وبعد مضي خمس دقائق على اجتماعه بهم، انسحب وتركهم مع وزير العدل. ويعني هذا الكلام أن الرجل يتكلم باسم المؤسسة العسكرية التي لا تؤمن بالدستور، ولا باستقلال القضاء، ولا بفصل السلطات، ولا بالمأسسة، ولا بالتداول على السلطة، وبالتالي، فإنها لا تؤمن بالدولة الحديثة...
هكذا يمكن القول، إنه لا توجد دولة في الجزائر، بل إن الدولة ماتزال في مرحلة ما قبل الدولة، وما قبل العقل والمنطق، بمفهوم ليفي برول Lévy Bruhl؛ فجنرالات الجزائر تائهون لا يمتلكون رؤية، ولا مشروعا، حيث يسود الفساد وغيره من الأمراض الأخرى التي قد تفتك بالوطن والشعب، وبالجنرالات أنفسهم.
تبعا لذلك، فإن هده العوامل كلها هي سبب الأزمة التي تعيشها الجزائر، والتي انطلقت مع استقلال هذا البلد، وبدأت تنمو وتكبر وتستفحل مع مرور الزمن حتى استشرى الفساد في كل شرايين الدولة والمجتمع حتى أصبحت الجزائر الشقيقة على حافة الانهيار التام... والنظام العسكري الذي أسسه بومدين هو سبب الأزمة الحالية في الجزائر وما يطغى عليها من فساد، بحيث صارت هذه الأزمة تتجاوز النظام ذاته. ومالا يدركه جنرالات الجزائر هو أنه في حالة استفحال فشلهم، فستتدخل قوى أخرى لإزاحتهم وطي صفحتهم بشكل نهائي، وهو ما لا أتمناه لما في هذا التدخل من انعكاسات سلبية على كيان الجزائر، وفي المقابل أتمنى أن يكون هناك إصلاح شامل يفضى إلى قيام دولة مدنية ديمقراطية حديثة...