الأربعاء 24 إبريل 2024
فن وثقافة

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (24 )

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (24 ) عبد الجليل جبران، ومشهد "مول العودة" وأطباق الكسكس بركراكة

تمكن الوباء اللعين "كورونا" من تأجيل موسم طواف شرفاء "ركراكة" برسم سنة 2020، ووقفت الجائحة سدا منيعا ضد قبائل ركراكة و الشياظمة و عبدة و دكالة وغيرهم في إحياء سنة التواصل الروحي والاجتماعي والاقتصادي.. وحرمتهم من الاحتفاء واستحضار موروثهم الشعبي وعاداتهم وطقوسهم وتقاليدهم التي ألفوا إقامتها كل سنة في فصل الربيع (بعد خروج الليالي).

 

في سفر "أنفاس بريس" والنبش في موضوع ظاهرة موسم طواف "ركراكة" الضارب في القدم، بعد الاستعانة في الحلقة الأولى ببعض المصادر التاريخية التي تناولت "السبعة رجال" والتعريف بهم، وبعلاقتهم بالمجال والإنسان، وكيف استوطنوا الأرض وقاوموا الغزاة، للمحافظة على استقرارهم وأمنهم واستمرار نسبهم، وقدمنا ملخص لمحة تاريخية عن "ركراكة" و"السبعة رجال" والسفر في زمن حروبهم وصراعاتهم مع المحتل والغزاة، وكيف استطاعت القبلية ضمان استمرارها وصولا إلى ترسيخ هذا الموسم السنوي الذي يحج له المغاربة من كل أنحاء الوطن لإحياء صلة الرحم.

لقد تقاطرت الشهادات والحكايات على جريدة "أنفاس بريس" من أفواه الفنانين والمبدعين وشيوخ العيطة وفناني الحلقة، والمنتسبين لأهالي وشرفاء ركراكة، وأبناء القبائل المنتمين لأرض "سبعة رجال"، سواء لتوضيح أو تثمين وتعزيز ما جاء في حلقاتنا السباقة بخصوص سلسلة ملفنا الإعلامي الذي اخترنا له عنوان: (مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم ) .

في الحلقة الرابعة والعشرين نقدم الجزء الأول من ورقة نتناول فيها بعض مظاهر الكرم و الطيبوبة في سلوك الإنسان الشايظمي وانخراطه في متابعة دور المعلم و المدرسة في التنشئة التربوية و الاجتماعية، حيث نستضيف الأستاذ عبد الجليل جبران الذي قضى مدة خمس سنوات بمجموعة مدارس حد الثوابت ليحكي للقراء عن "مكانة رجل التعليم عند أهالي ركراكة"، ونتفحص من خلاله علاقة المدرسة العمومية مع الأسرة الركراكية وانتصارهم للتعليم و القراءة والكتابة في سنوات الثمانينات من القرن الماضي .

أهالي ركراكة بالشياظمة يتطوعون لبناء غرف إقامة رجال التعليم

"كاد المعلم أن يكون رسولا"، شطر من بيت شعري يترجم مرتبة ومهمة رجل التربية والتعليم في نشر الثقافة و العلم ومحاربة الأمية والجهل، وربط جسور العلاقات الاجتماعية مع محيط المدرسة والأسرة خصوصا بالعالم القروي. لكن أن نحدد هدفنا بمنطقة الشياظمة تحديدا، فغايتنا هي إبراز سلوك وخصال أهالي ركراكة من خلال استجواب من عايش جيل فترة سنوات الثمانينات؟ وكيف كانت تتمثل الأسرة الشايظمية رجل التعليم الذي يلقبونه بـ "لفْقيهْ"، القادم من المدينة لممارسة مهنة التربية والتعليم بالبادية؟ وكيف تعاملوا وتواصلوا معه لتيسير مهمته على الوجه الأكمل؟ وما هي ردود فعله اتجاه الساكنة وتلامذته وأصدقائه الجدد من الشباب الذين جمعتهم به علاقة أسرية؟

يحكي الأستاذ عبد الجليل جبران الذي عين بعد تخرجه من مدرسة المعلمين بنيابة أسفي خلال سنة 1983 قائلا: "تسلمت التعيين، فوجدت نفسي ملزما بالعمل بالعالم القروي بمجموعة مدارس حد الثوابت بمنطقة الشياظمة، لكنني فوجئت بعدم وجود أي فرعية هناك بعد قطع مسافة طويلة ومتعبة"، كان هذا أول مشكل يصادف ضيف الجريدة، لكنه أكمل مشوار البحث واتصالاته مع الجهات الوصية في تلك الفترة ليحدد له مدير المجموعة المدرسية فرعية أخرى بجماعة الصعادلة ليدرس بها :"كانت فرعية الصعادلة توجد في أقصى نقطة تطل على جبل الحديد بمنطقة أقرمود". يقول الأستاذ جبران.

أسئلة كثيرة انتصبت أمام "لفقيه" الجديد الذي عين بفرعية الصعادلة، كيف سيتدبر حياته بمحيط اجتماعي لا يعرف عنه أي شيء ولا تربطه به أي علاقة، وهو الذي عاش في كنف والدته التي تسهر على تلبية حاجياته من إعداد وجبات التغذية وغسل الملابس والنوم في غرفته الخاصة والاستمتاع بمشاهدة التلفاز وقضاء وقته الثالث بدار الشباب أو المقهى بمدينته التي ألفها؟.

كانت المدرسة عبارة عن فضاء مفتوح في الهواء الطلق، تتوفر على قاعتين دراسيتين فقط في غياب الكهرباء والماء و انعدام غرفة خاصة بالنوم، وعدم وجود مرافق صحية تساعد على العيش والحياة بشكل طبيعي "لم يصل الربط بالكهرباء والماء للمنطقة، و لا وجود لسياج خاص بالمدرسة، ولا أثر للسكن الوظيفي أو مطبخ أو مرحاض لقضاء حاجتي الطبيعية" يوضح الأستاذ عبد الجليل جبران.

في هذه الظروف الحياتية والمهنية كانت عيون الساكنة ليل نهار، ترصد كل حركات المعلمين داخل الفصلين الدراسيين وخارجهما يقول جبران: "كانت عيون الناس تسترق النظر، وتتابع عملنا اليومي داخل الفصلين الدراسيين، وترصد كيفية تعاملنا مع إعداد وجبات التغذية، والخلود للنوم وقضاء حاجتنا الطبيعية". و يستطرد محدثنا قائلا: "كنت ملزما بأن أحول قاعة الدرس لمطبخ ومكانا للأكل، وأنام فوق الطاولات، واستيقظ باكرا لأعيد ترتيب القاعة لاستقبال التلاميذ"، على اعتبار أنه الوحيد الذي كان يستقر بشكل دائم بالمدرسة، في حين أن باقي المعلمين ينتقلون لمدينة أسفي.

في سياق الحديث عن ذاكرة التربية و التعليم في أحضان الشياظمة لم يفت الأستاذ عبد الجليل جبران أن يؤكد بالقول: "لقد شملني عطف الناس وكرمهم و طيبوبتهم، وأغدقوا علي من وجباتهم الغذائية الشهية صباح مساء..كنت أحس كأنني فرد من عائلات أهالي ركراكة..يصلني نصيبي من البيض والدجاج البلدي والأسماك وأنواع المنتجات الزراعية و الفلاحية....لقد كنت فعلا أعيش معززا مكرما في كنف ركراكة"

لم تمر إلا فترة قصيرة على عملي بالمدرسة فاكتشفت الساكنة أنني "أشتغل طوال اليوم بدون انقطاع، ولا أعير أي اهتمام للساعة، وأقدم المساعدة للتلاميذ الراغبين في المراجعة وأجيب عن أسئلتهم وأفاتحهم في مواضيع تربوية واجتماعية خارج أوقات العمل.."، واستمرت هذه العادة التي ألفها الجميع بدون شرط أو قيد إلى أن قرر أهالي ركراكة بالمنطقة تشييد قاعتين ومرحاض لتعزيز البنية الإستقبالية لفرعية الصعادلة من مالهم الخاص وبشكل تطوعي، "في صباح أحد الأيام من سنتي الأولى التعليمية بالصعادلة حلت جْماعةْ الدوار (كبار لقبيلة) بالمدرسة رفقة فقيه المسجد، وفاتحوني في قرارهم المتعلق بالمساهمة في تجويد خدمات مهمة التربية والتعليم بالفرعية، بعد أن ناقشوا وعالجوا قرار أمرهم من جميع الجوانب".

شمرت الساكنة برجالها وشبابها على سواعدهم وساهم كل حسب قدرته وإمكانياته المادية واللوجيستيكية وانطلق ورش البناء الذي عجل بـ "تشييد الغرفتين والمرحاض وتسييج الفرعية، مما حول الفضاء إلى مؤسسة حقيقية أحسسنا فيها بالدف والجدية ونكران الذات".

كان هذا أول سلوك مواطناتي أبهر الأستاذ جبران، عبر عنه أهالي الشياظمة لاحتضان رجل التعليم "لفقيه" الذي سيعلم ويلقن أبنائهم أصول القراءة والكتابة، كيف لا يبادرون لبناء الغرفتين والمرحاض وتسييج المؤسسة وهم المنتسبين لشجرة أهل الدين و العلم، ومعلوم أن منطقتهم تزخر بالزوايا والمدارس القرآنية العتيقة. في هذا السياق يقول ضيف الجريدة: "كان موقفا مواطنتيا انبهرت به.. موقفا جميلا مارسته العائلات الركراكية اتجاه المدرسة العمومية ، ورسخ في ذهني آلية التشارك والتواصل بين الأسرة والمدرسة والمعلم".

هذه الرسائل والإشارات المواطنتية التي بعت بها أهالي ركراكة بمنطقة الشياظمة لرجل التعليم بفرعية الصعادلة خلال فترة الثمانينات كان لها انعكاس إيجابي على نفسية العاملين بالحقل التعليمي، بعد أن تم الارتقاء ببنية فضاء المؤسسة بفضل التطوع والتشارك، لأداء مهمة التربية والتعليم على الوجه المطلوب.

وردا على الجميل قام الأستاذ عبد الجليل جبران بمبادرة "فتح ورش محاربة الأمية لأول مرة في صفوف أهالي المنطقة باستعمال أقسام الفرعية ليلا، وتحول فضاء الفرعية إلى ورش لتعليم أبجديات القراءة والكتابة لمن يرغب في ذلك.. انتشر النبأ بين الأهالي الذين كانوا متعطشين للقراءة وحبذوا الفكرة وانخرطوا بشكل مكثف في دروس محو الأمية".

تمر الأيام والشهور وتنصرم السنة المهنية الأولى التي قضاها الأستاذ جبران بفرعية الصعادلة حيث سيكتشف أنه زاوج بين مهنة رجل تعليم و مهمة الممرض، و الرجل الحكيم والمرشد والناصح والقاضي الذي يسهر على إبرام الصلح بين تلامذته وأهالي المنطقة كلما طفا على السطح أمر ما يحتاج للمعالجة الاجتماعية.

لقد تمكن عشق أرض الشياظمة من قلب المعلم عبد الجليل جبران ابتداء من سنة 1983، بحكم أنها ستظل شاهدة على انطلاق تجربة مشواره المهني بعيدا عن أسرته، قريبا من المشاهد الخلابة لطبيعة تضاريس الجبل والغابة وأشجار أركان والزيتون، وشاطئ البحر وجمال ضفة مصب وادي تانسيفت، و سيظل يذكر كرم ناس ركراكة وطيبة أهاليها، وحبهم للعلم والمعرفة واحترامهم للمعلم "لفقيه"، حيث يقول: "أهل الشياظمة يحترمون رجل التعليم الجاد والمواظب، ويعاملونه كفرد من عائلاتهم، ويضعونه في مرتبة تليق بقدسية رسالته التربوية والتعليمية".