الجمعة 26 إبريل 2024
فن وثقافة

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (15)

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (15) صقر العيطة الشيخ عمر الزايدي يتوسط مول العودة ووجبة كسكس من دور ركراكة

تمكن الوباء اللعين "كورونا" من تأجيل موسم طواف شرفاء "ركراكة" برسم سنة 2020، ووقفت الجائحة سدا منيعا ضد قبائل ركراكة والشياظمة وعبدة ودكالة وغيرهم في إحياء سنة التواصل الروحي والاجتماعي والاقتصادي.. وحرمتهم من الاحتفاء واستحضار موروثهم الشعبي وعاداتهم وطقوسهم وتقاليدهم التي ألفوا إقامتها كل سنة في فصل الربيع (بعد خروج الليالي).

في سفر "أنفاس بريس" والنبش في موضوع ظاهرة موسم طواف "ركراكة" الضارب في القدم، بعد الاستعانة في الحلقة الأولى ببعض المصادر التاريخية التي تناولت "السبعة رجال" والتعريف بهم، وبعلاقتهم بالمجال والإنسان، وكيف استوطنوا الأرض وقاوموا الغزاة، للمحافظة على استقرارهم وأمنهم واستمرار نسبهم، وقدمنا ملخص لمحة تاريخية عن "ركراكة" و"السبعة رجال" والسفر في زمن حروبهم وصراعاتهم مع المحتل والغزاة، وكيف استطاعت القبلية ضمان استمرارها وصولا إلى ترسيخ هذا الموسم السنوي الذي يحج له المغاربة من كل أنحاء الوطن لإحياء صلة الرحم.

لقد تقاطرت الشهادات والحكايات على جريدة "أنفاس بريس" من أفواه الفنانين والمبدعين وشيوخ العيطة وفناني الحلقة، والمنتسبين لأهالي وشرفاء ركراكة، وأبناء القبائل المنتمين لأرض "سبعة رجال"، سواء لتوضيح أو تثمين وتعزيز ما جاء في حلقاتنا السباقة بخصوص سلسلة ملفنا الإعلامي الذي اخترنا له عنوان: (مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم ) .

في الحلقة الخامسة عشر من هذه السلسلة يحكي الشيخ عمر الزايدي عن رحلته الفنية التي سافر من خلالها مع موكب دور ركراكة خلال سنوات السبعينيات من القرن الماضي ليشتغل مع عدة شيوخ و مجموعات عنائية في حضرة أهالي ركراكة وليالي سمرهم التي تقام بالمجال الجغرافي لـ 44 ولي صالح. واستحضر في حكيه كيف ساهم مختبر دور ركراكة الربيعي في إنتاج ثقافتنا الشعبية التقليدية بتنوع روافدها.

ذاكرة ظاهرة "فن الحلقة" وتفاعل "مختبر" دور ركراكة مع التراث والفن والإبداع

ذاكرة رحلة صقر العيطة الشيخ عمر الزايدي التامني في سفره الربيعي بمواسم دور ركراكة خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي تفوح منها رائحة عطر عمالقة ظاهرة فن الحلقة و الحكواتي ومروضي الأفاعي والثعابين، وشاربي الماء الساخن (الماء الطايب) في حضرة الجدب على إيقاع ناي عيساوة ودفوف جيلالة، وفنانون كوميديون يطلبون رزقهم عن طريق وصلات موسيقية وغناء شعبي بمنط (لقصايد) ذات المواضيع الدينية والاجتماعية، ومختلف الرقص الاستعراضي.. من جمهور سخي وعاشق لكل الفنون الشعبية التقليدية كانت الحلقة في الهواء الطلق هي مسرح فرجته بالعالم القروي.

"مع انطلاقة اليوم الأول من دور ركراكة في كل سنة، يحط الرحال بأرض الشرفاء والأولياء الصالحين عمالقة فن الحلقة من مختلف مدن المغرب، هم فعلا نجوم الضحك والغناء والمواقف الكوميدية الساخرة من الواقع، يحفظ أسمائهم عن ظهر قلب الصغير والكبير من أهالي ركراكة، بحكم التواصل السنوي معهم ومع حلقتهم الفرجوية.. فنانون مبدعون يجوبون كل مواسم الدور لتجديد الصلة بجمهور عبدة و الشياظمة و حاحا و دكالة ومختلف زوار وضيوف (السبعة رجال)" يقول ضيف الجريدة.

وحسب حكي الشيخ سي عمر الزايدي فالحلقة في مواسم دور ركراكة كانت تستقطب الحشود من الرجال والنساء والأطفال "جمهور ألف تربع هؤلاء على عرش فن القول والحركة والخفة وتمرير الرسائل الاجتماعية والإنسانية، لذلك تجد أهالي ركراكة متعطشين كل سنة للقاء بهم وترقب استضافتهم وكرمهم والسمر معهم، والاستمتاع بجديد إبداعاتهم على جميع المستويات الفنية ".

فن الحلقة يعتبر في نظر صقر العيطة الشيخ عمر الزايدي "مدرسة فنية واجتماعية، والاشتغال فيها ضمن للعديد من نجومها سبل العيش والحياة الكريمة، واستطاع رجالاتها تكوين أسرهم وتعليم أبنائهم، وضمان مستقبلهم دون حرج من مهنتهم التي اختاروها عن قناعة"، لأن الحلقة جزء من "الثقافة الشعبية التقليدية التي كانت تساهم في نقل الأخبار وتعميم المعرفة والحكمة " حسب ضيف الجريدة.

الحلقة ضمن مكونات الفرجة الشعبية في دور ركراكة كان لها وقع كبير في مواسم المنطقة (44 موسم) من خلال مجموعة من الأسماء اللامعة في الميدان "أغلب الأعيان كانوا يستضيفون في بيوتهم أسماء معروفة في فن الحلقة، يقدمون عروضهم الساخرة والفرجوية للمدعوين والضيوف وأهالي شرفاء ركراكة بجانب فقرات الطرب والغناء والموسيقى الشعبية، بطريقة محببة وسلسة الغاية منها تمرير رسائل مشفرة من خلال تناولهم لعدة مواضيع تستأثر باهتمام المتلقي على مستوى واقع الحال والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، والصراع بين الغني والفقير وطقوس الزواج والطلاق والحياة في البادية والمدينة ...والاختلاف بين حياة المرأة في القرية والمدينة.." يوضح عمر الزايدي.

في سياق حديثه عن فن الحلقة كمدرسة للتربية على الثقافة الشعبية التقليدية وصناعة الفرجة في الهواء الطلق في دور ركراكة أكد الفنان الزايدي بأن فن الحلقة في السبعينات كان يختلف من نوع لآخر "كانت بعض الفرق تعتمد على الميزان والغناء في صناعة فرجتهم، مثل مجموعة لكريمات من الشياظمة، وعبيدات الرما أولاد أحمر وخوت بوجمعة (رقصة لمكاحل والتمثيل)، ومجموعة سي بلخير والكموم من سبت جزولة، ومجموعة حميد لمسي وإخوته (صاحب أغنية ركراكة)، ومجموعة الفنان لفتاوي للغناء والتمثيل (آلة المكرونة)، والشريفة الرحالية وأبنائها..."، في حين كانت فرق أخرى تعتمد على "تقديم عروض فرجوية عن طريق إبداعاتها في التمثيل فقط مثل الفنان الركراكي لقرع من الرباط، و المبدع الساخر ولد قرد من سيدي بنور، و الثنائي الكوميدي سي محمد الطويل الملقب بالغليمي ورفيقه لحسن يامنة الذي يمتاز بقصر قامته (الطويل ولقصير) ..."

مختبر "دور ركراكة" التراثي والفني والإبداعي، تلاقحت فيه كل مظاهر الثقافة الشعبية التقليدية وتم تخصيبها بروافد متعددة حملها معهم فنانون ومبدعون حلايقية وافدون من مختلف مناطق المغرب يطلبون الرزق بعرق جبينهم وعلو كعبهم في تنظيم الفرجة في الهواء الطلق، وأنتج "المختبر" كنوزا أخرى لا تعد ولا تحصى في مشهد ثقافتنا الشعبية.

"الفنان الحاج عبد الكريم الفيلالي رحمة الله عليه كان أحد رموز فن الحلقة الغنائية بدور ركراكة وكان فضاء حلقته يستقطب حشودا هائلة من عشاق نمطه الفني والغنائي و الفرجوي، كانت قصائده الدينية ورواياته وحكاياته التاريخية المغناة محببة لدى جمهور أهالي ركراكة، ويتفاعلون معها بشكل كبير إلى درجة اعتبارها حكما ودروسا تفيد الإنسان في حياته اليومية" يقول الشيخ عمر الزايدي الذي كان صديقا لهذا الأخير.

ومن مشاهد الفرجة الفنية بمختبر دور ركراكة الربيعي حلقة مجموعة فيلالة القادمين من تخوم شرفاء أرض تافيلالت "كانت مجموعة فيلالة تغني نمط البلدي بآلة العود والدربوكة والطر، وتخلق نوعا من الفرجة الجميلة بمواضيع اجتماعية رائعة، إلى درجة أنهم استقروا بمدينة أسفي مدة عشرة سنوات نسجوا خلالها علاقات الود والاحترام، وتفاعلوا فيها فنيا واندمجوا مع شيوخ و شيخات العيطة الحصباوية وشرفاء ركراكة ".

ذاكرة رحلة صقر العيطة عمر الزايدي في سفر دور ركراكة شاهدة على علو كعب أسماء لامعة في مسرح فن الحلقة يذكر منهم " الفنان لفتاوي كان مبدعا حقيقيا في تقديم الفرجة وصناعة الضحك والفرح رفقة مجموعته في فن الحلقة والتي تتشكل من أفراد عائلته، وكان يعزف على آلة المكرونة، بإيقاع جميل يستفز وجدان المتلقي بنمط غناء لهوير".

هذه الشهادة في حق المبدع لفتاوي تقاسمها كل من الفنان محمد عاطر معد ومقدم برنامج ريحة الدوار، والشيخ بوجمعة بن عكيدة، حيث أكدوا على أن لحلايقي لفتاوي "كان فنانا في تقديم الفرجة والتمثيل على لسان الحيوانات، وكان أفراد مجموعته يتدثرون بجلود وأقنعة الحيوانات ويقدمون مواضيع تنتقد ظروف الحياة الصعبة في البادية بإكراهاتها وصعوباتها في علاقة بالأرض والمخزن وجفاف الطبيعة وظواهر اجتماعية أخرى بسلبياتها وإيجابياتها "إنها الثقافة الشعبية المغربية التي تماهت مع الإبداع الأدبي العالمي في تناول قضايا المجتمع سيرا على نهج "لافونتين" و "ابن المقفع".

إن مختبر دور ركراكة التراثي والفني والإبداعي، شاهد على حركة فنية أصيلة مر رجالها ونسائها من أرض الشرفاء "السبعة رجال"، وحافظ على تفاعلات أهل الحرفة وصناع الفرجة بمختلف أنماطها وأنواعها وأصولها في حضرة أهالي شرفاء ركراكة الذين لم يبخلوا بكرمهم وجودهم على فناني المجتمع المغربي منذ القدم، وحرصهم الشديد على دوام واستمرار هذه الذاكرة على أرض الواقع من أجل الحفاظ على تراثنا الشفهي وثقافتنا الشعبية التقليدية المتنوعة رغم الإكراهات الخارجة عن إرادتهم .