الخميس 25 إبريل 2024
فن وثقافة

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (11)(مع فيديو)

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (11)(مع فيديو) الفنان المبدع أحميدة الباهيري يتوسط مول العودة ووجبة الكسكس بدور ركراكة

تمكن الوباء اللعين "كورونا" من تأجيل موسم طواف شرفاء "ركراكة" برسم سنة 2020، ووقفت الجائحة سدا منيعا ضد قبائل ركراكة والشياظمة وعبدة ودكالة وغيرهم في إحياء سنة التواصل الروحي والاجتماعي والاقتصادي.. وحرمتهم من الاحتفاء واستحضار موروثهم الشعبي وعاداتهم وطقوسهم وتقاليدهم التي ألفوا إقامتها كل سنة في فصل الربيع (بعد خروج الليالي).

 

في سفر "أنفاس بريس" والنبش في موضوع ظاهرة موسم طواف "ركراكة" الضارب في القدم، بعد الاستعانة في الحلقة الأولى ببعض المصادر التاريخية التي تناولت "السبعة رجال" والتعريف بهم، وبعلاقتهم بالمجال والإنسان، وكيف استوطنوا الأرض وقاوموا الغزاة، للمحافظة على استقرارهم وأمنهم واستمرار نسبهم، وقدمنا ملخص لمحة تاريخية عن "ركراكة" و"السبعة رجال" والسفر في زمن حروبهم وصراعاتهم مع المحتل والغزاة، وكيف استطاعت القبلية ضمان استمرارها وصولا إلى ترسيخ هذا الموسم السنوي الذي يحج له المغاربة من كل أنحاء الوطن لإحياء صلة الرحم.

 

لقد تقاطرت الشهادات والحكايات على جريدة "أنفاس بريس" من أفواه الفنانين والمبدعين وشيوخ العيطة وفناني الحلقة، والمنتسبين لأهالي وشرفاء ركراكة، وأبناء القبائل المنتمين لأرض "سبعة رجال"، سواء لتوضيح أو تثمين وتعزيز ما جاء في حلقاتنا السباقة بخصوص سلسلة ملفنا الإعلامي الذي اخترنا له عنوان: (مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم ) .

في هذا السياق نقدم الحلقة الحادية عشر من هذه السلسلة، والتي استضافت من خلالها الجريدة فنان الظاهرة الغيوانية، مؤسس مجموعة أبنات الغيوان المبدع أحميدة، ليروي لنا قصة ذكريات ارتباطه الروحي والعاطفي مع تربة صلحاء ركراكة، ومن هي الشخصيات التي أثرت في مساره الطفولي، وساهمت في مشواره الإبداعي، وعلاقته بالأمكنة التي ظلت راسخة في ذهنه وشكلت انعطافة في حياته الفنية، وخصوصا ملهى "رياض فاس" لمالكه البطل العالمي في رياضة المصارعة الأمير العياشي الركراكي.

حكاية فنان لقح بنفحات صلحاء ركراكة في سن مبكرة

"لم أتجاوز سن السادس من عمري في سنة 1962 بمدينة الدار البيضاء، ألعب كسائر أقراني في زقاق الحي نتقاسم حكاياتنا الجميلة ونحن نقلد الكبار، أقدم بحب خدمات اجتماعية وفق ضوابط مفهوم "الجورة" بقيم الاحترام والأخلاق التي تربينا عليها في الزمن الجميل، وكانت في تلك الفترة البهية تقطن بجوارنا سيدة رفقة زوجها الذي لم يرزق بأبناء، وكنت أحظى عند هذه الأسرة الكريمة بمكانة خاصة، ويعاملونني كأنني فلذة كبدهما". يحكي الفنان أحميدة الباهيري الذي ازداد سنة 1956 بمدينة مراكش.

يتذكر المبدع أحميدة أنه خلال عطلة صيف 1962 "قررت تلك الأسرة أن تقضي إجازتها بمنطقة الشياظمة"، على اعتبار أن الزوجة تنحدر من أهالي ركراكة، هذا القرار ـ حسب ضيف الجريدة ـ تمخض عنه قرار آخر كان محوره أحميدة الطفل

"انطلقت المشاورات بين تلك الأسرة ووالدتي ووالدي، لكي أقضي معهما عطلة الصيف بأحد دواوير منطقة الشياظمة، ودون تردد، ونظرا للثقة المتبادل بين الأسرتين، وافقت أمي وأبي على طلبهما وأشرا على أول إجازة لي بعيدا عن أسرتي". يقول مؤسس مجموعة بنات الغيوان الذي سيخوض هذه التجربة لأول مرة

شريط من الأحلام والمتمنيات كان يمر بين الفينة والأخرى أمام أحميد الطفل، وهو يعد العدة للسفر، وخوض تجربة رحلة نحو البادية للعب والمرح و التعرف على عالم آخر يحكون عنه أنه يختلف تمام عن المدينة وبناياتها وحركتها ومشاهدها وعلاقاتها الاجتماعية التي ألفها في الدار البيضاء...صدى وصايا أمه وأبيه تتردد على مسامعه وهو يقطع جغرافيا المسافة الرابطة بين المدينة والقرية في تخوم أهالي ركراكة.

"وصلنا إلى القرية التي تتربع بين أحضان طبيعة تضاريس جبال و تلال وهضاب أرض ركراكة المكسوة بشجر الزيتون وأركان، واستقبلنا بحفاوة الضيوف القادمين من المدينة، وقدمت لنا صينية الشاي والمكسرات، الممزوجة برائحة خبز الفران التقليدي.. وسمعت في تلك اللحظة صياح ديك يستغيث ويريد أن يفلت من الذبح.. كانت هندسة البيت وغرفه توحي بأن المنقطة لا تحتاج لأبواب حديدية وأقفال تحكم إغلاقها خوفا من المجهول، كل المرافق والفضاءات مفتوح على الهواء الطلق، تحرسه عين الله التي لا تنام، و النية والثقة وطمأنينة القلوب الطاهرة" يروي الفنان أحميد وهو يستحضر الصور والمشاهد العالقة بذهنه.. هو الذي كانت عينه وأذناه في تلك اللحظة الجميلة "تسترق دقة الملاحظة لحركة الدجاج والحيوانات ووسائل عمل الفلاحة والزراعة وأواني تختلف عن أشياء بيتنا وحينا ومدينتنا، وطريقة الكلام و لغة التواصل المفعمة بالإنسانية.."

نبضات عقارب الساعة كانت تساوي أوتارها مع إيقاعات دقات قلب الطفل أحميدة الآتي من المدينة، وهو يقف أمام مشهد غروب الشمس وراء تلك الجبال الشامخة التي تنبعث منها رائحة ملح بحر حاضرة المحيط، والهدوء يسيطر على المكان إلا من أصوات دواب و بهائم ورؤوس أغنام عائدة نحو إسطبلاتها للإستراحة من عناء قطع مسافات الرعي على نغمات ناي الراعي وكلبه الشرس الذي قهر ذئاب وثعالب الغابة وشعاب الوديان.

"بعد تناول وجبة عشاء دسمة على نور الشمعة، واحتساء كؤوس الشاي على نغمات المذياع خلد الجميع إلى النوم، بعد أن خصص لي فراش وغطاء يليق بضيف غالي وعزيز، يعتبر محور الزيارة للقبيلة للتمني بمولود للأسرة التي رافقتها في هذا السفر".. تغيير مكان النوم بعيدا عن والده ووالدته غير من إحساسه ونفسيته والدليل يقول أحميدة في حكيه "استبد بي العياء، وكان النوم يغالبني في تلك اللحظة بعد أن لهوت ولعبت كثيرا بفناء الخيمة طيلة حلولنا بالقرية، كنت أغلق عيناي وافتحهما في الظلام ودقات قلبي تتسارع.. إلى أن نمت واطمأن الجميع بأنني سافرت في حلمي "

لكن وقع ما لم يكن ينتظره أي أحد في هزيع الليل "قفزت من مكاني دون سابق إنذار، صرخت بأعلى صوتي، وكأن شبحا يريد أن ينقض على رقبتي، انتصبت بقامتي الصغيرة واقفا مذعورا وخائفا، أبكي وأنوح أمام دهشة الجميع وقلقهم عن حالتي.. وضعتهم في موقف حرج بفعل حالتي الهستيرية ..فانطلقت الأسئلة وأجوبتها الغامضة عن سبب هذا الذي انتابني على حين غرة" يوضح ضيف الجريدة.

بعد تدخل استعجالي لأفراد الأسرة المضيافة بوسائل لم أستوعب منها بعد مرور الزمن سوى "أنني ربما أصبت آنذاك بمس، أو أنني أسأت التصرف مع لجواد، وأهل لمكان وما إلى ذلك من كلام يتعلق بعوالم أخرى لا يفقه فيها عقل صبي لم يتجاوز عمر الزهور".

في صباح اليوم الموالي من عطلتنا بتلك القرية الجميلة وأناسها الطيبين "رافقتهم إلى زيارة أحد الأضرحة القريب من المنطقة، لالتماس العفو والشفاء مما لحقني، وقدمت للولي الصالح هدية عبارة عن قطع من السكر و الشمع، ورفعت أكف الضراعة لله كي يحيطني بحفظه ويقرني بعينه التي لا تنام" يقول أحميد...

الزيارة لمستعجلات الضريح "كانت ميمونة ومباركة، ونزلت على قلبي كالبلسم الشافي، وعدنا للدوار وكأن شيئا لم يكن"، هكذا سيطمئن الجميع عن حالة أحميد الطفل، "تجاوزت محنة ليلة مؤرقة ونسيت كل ما وقع، واندمجت من جديد مع أولاد الدوار، وانصرفت للعب بين الحقول والأشجار، أراقب العصافير، وأرعى رفقة أقراني الغنم والبقر، وأساعد في جلب الماء وأتسلل لخم الدجاج بحثا عن البيض، والتهم خبز الفران التقليدي بنهم".

الغريب يقول الفنان أحميدة الباهيري "رفضت العودة للدار البيضاء بعد انصرام الأيام التي كانت مقررة لعطلة تلك الأسرة الطيبة في الصيف، وأصررت على المزيد من الأسابيع إلى أن قضيت هناك شهرا ونصف اعتبره فرصة العمر التي ربتني على الكثير من القيم".

 

رابط الفيديو هنا