السبت 20 إبريل 2024
فن وثقافة

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (10)

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (10) البطل العالمي في رياضة المصارعة الحرة مير العياشي الركراكي يتوسط أولاد بن عكيدة سنة 1973، والشيخ بوجمعة)

تمكن الوباء اللعين "كورونا" من تأجيل موسم طواف شرفاء "ركراكة" برسم سنة 2020، ووقفت الجائحة سدا منيعا ضد قبائل ركراكة والشياظمة وعبدة ودكالة وغيرهم في إحياء سنة التواصل الروحي والاجتماعي والاقتصادي.. وحرمتهم من الاحتفاء واستحضار موروثهم الشعبي وعاداتهم وطقوسهم وتقاليدهم التي ألفوا إقامتها كل سنة في فصل الربيع (بعد خروج الليالي).

في سفر "أنفاس بريس" والنبش في موضوع ظاهرة موسم طواف "ركراكة" الضارب في القدم، بعد الاستعانة في الحلقة الأولى ببعض المصادر التاريخية التي تناولت "السبعة رجال" والتعريف بهم، وبعلاقتهم بالمجال والإنسان، وكيف استوطنوا الأرض وقاوموا الغزاة، للمحافظة على استقرارهم وأمنهم واستمرار نسبهم، وقدمنا ملخص لمحة تاريخية عن "ركراكة" و"السبعة رجال" والسفر في زمن حروبهم وصراعاتهم مع المحتل والغزاة، وكيف استطاعت القبلية ضمان استمرارها وصولا إلى ترسيخ هذا الموسم السنوي الذي يحج له المغاربة من كل أنحاء الوطن لإحياء صلة الرحم.

في الحلقة العاشرة من ذاكرة (مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم)، يستمر حكي الشيخ بوجمعة بن عكيدة للجريدة ليصف ارتباط المجموعة بـ "دور ركراكة" ارتباطا روحيا وعاطفيا ووجدانيا، ويروي الشيخ بوجمعة كيف جاءت فكرة مصاحبة أولاد بن عكيدة طواف ركراكة والانتقال من موسم إلى آخر سنة 1972/ 1973. وكيف تدبروا أمرهم. فضلا عن أهم الصور والمشاهد الراسخة في ذهنه والتي كانت سببا رئيسيا في بلورة المشروع الفني ونجومية أولاد بن عكيدة نحو العالمية.

 

رحلة من "ركراكة" إلى العاصمة الاقتصادية نحو العالمية.. "الشيخ بلا شيخ جبحو خاوي"

الأجواء والطقوس والعادات التي اشتغلت فيها مجموعة أولاد بن عكيدة خلال مرافقتها لموكب وترحال دور ركراكة من موسم لآخر خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي، تميزت بقيم الكرم وحسن الضيافة و طيبوبة وسمو الأخلاق عند أهالي ركراكة، "أهالي ركراكة يقتحمون الغرف التي يقيم فيها (ربايع الشياخ) و(لحلايقية) والفنانين الشعبيين، ويوزعون كل حسب قدرته مواد استهلاكية بسخاء وبشكل تطوعي، من (سكر، وزيت، ولحوم، وفواكه جافة، وحلويات، وخبز...) ويسألون عن أحوالنا باستمرار، ويدعمون الفنانين ببعض المال إن أحسوا بضيق ذات اليد.. هذا هو حال وسلوك أهل ركراكة خلال فترة السبعينيات والثمانينيات"، يقول سي بوجمعة بن عكيدة

 

في سفرنا مع الشيخ سي بوجمعة في رحلته التراثية استحضرنا كلمة "ركراكة"، المشتقة من كلمة "تركات" ( بتضخيم الكاف)، ومعناها بالأمازيغية القديمة : "المباركة" أو أهل "البركة"، لذلك نجد الكرم والجود والسخاء سمة وسلوك يمتاز به أهالي شرفاء ركراكة، وكأنهم تشبعوا عبر التاريخ بقيم الشاعر والفارس حاتم الطائي في الكرم والجود "ألم يكن حاتم الطائي من أشهر الأجواد، وأسخى الناس، وأكرمهم في الجاهلية؟ ألم يكن حيثما نزل عرف منزله؟ وإذا غنم أسهب، وإذا قاتل غلب، وإذا سئل وهب، وإذا ضرب بالقداح سبق، وإذا أسر أطلق"..

قال في شعره عن الكرم:

"فلا الجود يفنى المال قبل فنائه/ ولا البخل في المال الشحيح يزيد

فلا تلتمس بخلا بعيش مقتر/ لكل غد رزق يعود جديد

ألم ترى أن الرزق غاد ورائح/ وأن الذي يعطيك سوف يعود"...

وقوله أيضا:

"أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله/ ويخصب عندي والمحل جديب

وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى/ ولكنما وجه الكريم خصيب"...

 

من هذا المنطلق، فلا غرابة إذا فتحت أبواب بيوت العائلات والأسر على مصراعيها في وجه الأهل والأحباب والضيوف والوافدين وعابري السبيل، وتعلق الأعلام البيضاء، وراية الوطن في إشارة للترحيب بالقادمين للتبرك ببركة الأولياء والصالحين من أولياء الله خلال "دور ركراكة"، ولا ستستغرب إذا شاهدت الناس يقومون بإعادة طلي واجهات المنازل في بعض المناطق بصباغة جديدة وإضفاء حلة بهية على الغرف والجدران، و فتح صناديق عدة الأجداد للتباهي بين الناس، والإفراج عن مخزون السلع ومنتوجات الموسم الفلاحي الفارط، وتسمين رؤوس الأغنام، وتجديد كل أثاث و مستلزمات الضيافة والإقامة، وبنفس الهمة يتم تجديد صباغة مرافق وجدران الزوايا والأضرحة وأفرشتها حتى تعكس قيمة اللحظة على جميع المستويات الدينية والروحية والاجتماعية والثقافية والفنية.

 

"الدور" يعتبر في عرف الناس محطة تجارية ومعيشية من خلال إحداث مناصب الشغل التي يوفرها للجميع دون استثناء مدة شهر ونصف وعلى سبيل المثال لا الحصر "من لم يشتري حلويات بن الطالب وتوزيعها على أفراد عائلته لا يمكن أن يعتبر نفسه قد زار دور ركراكة وحمل معه الزيارة لأهاليه"، يقول الشيخ بوجمعة، على اعتبار أن شخصية بن الطالب معروفة على الصعيد الوطني كتاجر للحلويات بمختلف أصنافها: "يشغل الشريف بن الطالب العشرات من اليد العاملة قبل الدور لمدة ستة أشهر تقريبا لتوفير سلعته التي يوزعها بالجملة وبالتقسيط بجميع مواسم ركراكة، وكل أهالي ركراكة يشترون سلعته المتميزة ويحملونها معهم لمدن إقامتهم كعربون زيارة تتسم بالبركة".. لكن جائحة كورونا سنة 2020، كبدته  خسارة كبيرة بعد إلغاء فعاليات دور ركراكة رغم أنه يعتبر محطة أساسية للتجارة.

 

في نفس السياق أكدت للجريدة عدة مصادر من المنطقة بأن التاجر بن الطالب الركراكي "كان يستثمر مئات الملايين لتوفير سلعته المطلوبة، وويوزع الحلوى بواسطة شاحنات على كل نقط مواسم دور ركراكة، وعرف الرجل بسخائه وكرمه وعطفه على الفقراء والمحتاجين، وكان ومازال يخصص حصصا للشيوخ والفنانين من منتوجات سلعته... وكانت مداخيل عائدات حلوياته خلال الدور توفر له عناء سنة من الشغل، وتساهم في إنعاش دورة الحياة الاقتصادية"، نفس الشيء ينطلي على تجار آخرين وفي تخصصات أخرى تجد إقبالا منقطع النظير بمواسم ركراكة.

 

هذه الحمولة الاجتماعية والإنسانية المتميزة التي اكتسبها "دور ركراكة" عبر الزمن هي التي لقحت ومنحت مجموعة أولاد بن عكيدة شرف حمل وسام بركة (ركراكة لحرار فتاحين المغرب)، ورسمت لهم طريق النجاح والفلاح في مشوارهم الفني حيث كانت البداية اتخاذ قرار انتقالهم للعمل بمدينة الدار البيضاء تلبية لاقتراح أحد أبناء المنطقة، المسمى قيد حياته مير العياشي ولد الحاج لبيض الركراكي.

"كان بطلا عالميا في رياضة المصارعة الحرة خلال سنوات الستينيات، ينحدر أصله من منطقة النزيلات بالشياظمة، وكان يقيم بدوره حفلات موسم (مرامر) كل سنة خلال دور ركراكة، حيث قدمنا عروضنا الفنية في بيت عائلتهم والتي راقته ولقيت استحسانه.."

 

كانت هذه اللحظة مفصلية في حياة مجموعة أولاد بت عكيدة -حسب تعبير سي بوجمعة- الذي أفاد الجريدة بأن المجموعة: "قبلت عرض البطل العالمي مير العياشي للإشتغال برياض فاس بمدينة الدار البيضاء ابتداء من سنة 1973، بعد أن شاهد إحدى عروضنا بمنطقة النزيلات وتعرف علينا، فأقترح علينا الاشتغال عنده في بعض الملاهي الليلية التي كان يديرها بمدنية الدار البيضاء، والتي كان يشغل فيها عدد كبير من المجموعات الغنائية الشعبية بمختلف أنماطها الموسيقية (العيطة، غناء أمازيغي.. الموسيقى الشعبية..)، مثل رباعة الشيخ الموتشو، والشيخ بناصر وخويا والرايس الحاج الدمسيري، والفنانة فاطمة تحيحيت الصغيرة رفقة الرايس حسن بونصير، وشيوخ زيان وشيوخ الدار البيضاء وغيرهم".

 

ويتذكر بوجمعة بن عكيدة كيف تم استقبالهم وإحاطتهم بالعناية والحفاوة اللازمتين خلال بداية عملهم بالدار البيضاء سنة 1973، قائلا: "لقد كلف بطل رياضة المصارعة مير العياشي أخاه السي عبد الله بمرافقتنا لإقامتنا الجديدة، حيث وجدنا فيلا للسكن بجميع أثاثها بحي بوركون بشارع الزيراوي، ومن تم انطلق عملنا بفضاء رياض فاس مدة خمس سنوات متتالية". بعد هذه التجربة أمام رواد رياض فاس، والتي امتدت زهاء خمس سنوات ستنتقل المجموعة رفقة إيقونة فن العطية شيخة الشيخات فاطنة بنت الحسين إلى ملاهي ليلية أخرى مثل "ملهى لاتيراس" لتستمر التجربة بنجاحاتها إلى اليوم.

 

"الشيخ بلا شيخ جبحو خاوي"، قولة يرددها شيوخ و شيخات فن العيطة في إشارة إلى أخذ "المشيخة" و"لخبيزة" من الرواد الأوائل والتبرك ببركتهم وتواضعهم وتوجيهاتهم ونصائحهم، هي قولة تنطبق على مسيرة مجموعة أولاد بن عكيدة الفنية، التي راكمت في رحلتها من "دور ركراكة" العديد من التجارب حيث يؤكد سي بوجمعة : "نحن ننتمي تاريخيا (قرنين من الزمن) إلى جدنا القايد علي بن عكيدة، شربنا من ينبوع الوقار والطاعة والتواضع والاحترام، وتميزت مسيرتنا بطابع التيسير والسداد بفضل دعوات الخير، وتقدير الشرفاء، وبفضلهم كتبت سيرتنا الذاتية، التي نهلت من ينبوع فطاحلة شيوخ العيطة، حيث فتحت أمامنا أبواب المشاركة كسفراء لحاضرة المحيط مدينة أسفي في تظاهرات فنية و مهرجانات عالمية وعربية ومشرقية ووطنية، وسجلنا حضورنا بعروضنا الفنية لمغاربة العالم والجالية العربية في مختلف دول العالم سواء في فرنسا وإسبانيا ولندن و أمريكا، وسويسرا، وهولندا، وإيطاليا والسويد، واشتغلنا في دولة الكويت، وليبيا وتونس والجزائر، والعراق وسوريا"...