السبت 27 إبريل 2024
فن وثقافة

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (8)

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (8) الشيخ بوجمعة والشيخة حفيظة الحسناوية مع مجموعة أولاد بن عكيدة

تمكن الوباء اللعين "كورونا" من تأجيل موسم طواف شرفاء "ركراكة" برسم سنة 2020، ووقفت الجائحة سدا منيعا ضد قبائل ركراكة والشياظمة وعبدة ودكالة وغيرهم في إحياء سنة التواصل الروحي والاجتماعي والاقتصادي.. وحرمتهم من الاحتفاء واستحضار موروثهم الشعبي وعاداتهم وطقوسهم وتقاليدهم التي ألفوا إقامتها كل سنة في فصل الربيع (بعد خروج الليالي).

 في سفر "أنفاس بريس" والنبش في موضوع ظاهرة موسم طواف "ركراكة" الضارب في القدم، بعد الاستعانة في الحلقة الأولى ببعض المصادر التاريخية التي تناولت "السبعة رجال" والتعريف بهم، وبعلاقتهم بالمجال والإنسان، وكيف استوطنوا الأرض وقاوموا الغزاة، للمحافظة على استقرارهم وأمنهم واستمرار نسبهم، وقدمنا ملخص لمحة تاريخية عن "ركراكة" و"السبعة رجال" والسفر في زمن حروبهم وصراعاتهم مع المحتل والغزاة، وكيف استطاعت القبلية ضمان استمرارها وصولا إلى ترسيخ هذا الموسم السنوي الذي يحج له المغاربة من كل أنحاء الوطن لإحياء صلة الرحم.

في الحلقة الثامنة من ذاكرة (مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم)، يستمر حكي الشيخ بوجمعة بن عكيدة للجريدة ليصف ارتباط المجموعة بـ "دور ركراكة" ارتباطا روحيا وعاطفيا ووجدانيا، ويروي الشيخ بوجمعة كيف جاءت فكرة مصاحبة أولاد بن عكيدة طواف ركراكة والانتقال من موسم إلى آخر سنة 1972/ 1973. وكيف تدبروا أمرهم. وأهم الصور والمشاهد الراسخة في ذهنه.

 

"دور ركراكة" مدرسة تراثية لتلقين مختلف شعب فنون الثقافة الشعبية

"دور ركراكة" الذي يشمل أربعة وأربعين واليا صالحا، يستقطب العديد من شيوخ و شيخات العيطة والغناء والفنون الشعبية، و يعتبر مختبرا للثقافة الشعبية، لإبراز الاحترافية والصنعة الفنية أمام ضيوف أهالي وعائلات ركراكة للاستمتاع بلحظة فرح يتم من خلالها التخلي عن ثقل سنة من الضغوط المادية والاجتماعية والمعنوية والنفسية.

وعلى اعتبار أن الدور محطة اقتصادية تساهم في تخفيف تكاليف العيش ويدخر من مداخيله الفنان (الشيوخ) مصروف حياتهم إلى غاية انطلاق حفلات ومناسبات فصل الصيف، يؤكد الشيخ بوجمعة ولد بن عكيدة على أن: "فترة السبعينيات كانت تحضر للدور أغلب المجموعات الغنائية التي داع صيتها (ربايع الشياخ) من مختلف المدن والمناطق المغربية، سواء من الصويرة وأسفي واليوسفية ومراكش وقلعة السراغنة والدار البيضاء وسطات"..

 

ويستحضر ضيف الجريدة بعض الأسماء التي كان لها حضورا قويا في فعاليات دور ركراكة من أمثال:" الشيخ الزوادح، الشيخ ولد سيبوع، الشيخ بلحسن، الشيخ الزموري، الشيخ عواج، الشيخ العاصر، والشيخ بلمعلم، والشيخ إبراهيم... والشيخة الهداوية، والكريمية، ومنية الزمورية، والشيخ بجيغو، والحسين الدلال، والشيخ رضوان، والشيخ عمارة، وولد كرد، وبرغوث، وحسن ولد الزاهية، وأحمد الحداد..."

هذه الأسماء كانت تحضر لـ "دور ركراكة" من أجل إحياء فن الحلقة وليالي السمر مدة 44 يوما، وأداء وصلات فنية وسهرات عائلية بالمنطقة طيلة تجوال مجموعاتها من موسم لآخر، أو في ضيافة بعض الأعيان وضيوفهم، أو عند عائلات تحتفي فيما بينها، أو لمة للشباب قصد الاستمتاع بلحظات من الطرب والنغم الأصيل وفن الحكواتي في جو يسوده الإخاء والطمأنينة والأمن والأمان.

 

"في أغلب الأحيان لم نكن تتفاوض مع زبنائنا من أهالي ركراكة حول مستحقات المجموعة لما يزوروننا في غرفتنا التي نقيم فيها، نكتفي بمعرفة اسم العائلة المضيافة وزمان ومكان الحفل الفني، ونتكل على الله بكل أريحية"، يوضح الشيخ بوجمعة، حيث أكد على أن "أغلب تعاقداتنا كانت شفوية، بـ (لْكلْمةْ) دون قيد أو شرط، ونضع نصب أعيننا مثل شايظمي معروف يقول: (أحمر مكحلة وزناد/ إلا وصلت للشياظمة لا ترفد زاد)"

 

كانت منطقة الشياظمة وحاحا آنذاك مازالت غارقة في الظلام، ولم تتصل بيوتها وفضاءاتها بمحولات كهربائية لمد الساكنة بالإنارة، "كان أهالي ركراكة يعولون في إنارة حفلاتهم على (لامبة) بالغاز (فانوس غازي)، وكل الوافدين يستعملونها في غرفهم، ووسط خيامهم، لإشاعة النور بين الحضور"؛ لذلك كان من اللازم أن تجد هذه الآلة الساحرة بنورها فرصة للرواج التجاري "كان هناك شخص امتهن كراء الفوانيس (لامبات) لمن يرغب في إنارة مسكنه لاستقبال ضيوفه أحسن استقبال، ولقيت رواجا منقطع النظير".

في تلك الفترة كذلك كان الناس يتنقلون على متن الدواب، أو مشيا على الأقدام وقطع المسافات التي تتعدى في بعض الأحيان 10 كلم، "كنا نتنقل على متن الدواب أو نمشي على الأقدام لنصل في الوقت المطلوب، وإحياء الليلة في حضرة شرفاء ركراكة بمختلف فئاتهم الاجتماعية " يقول الشيخ بوجمعة.

 

ذاكرة الشيخ تختزن صورا غاية في الروعة، تؤرخ لمشاهد اجتماعية وإنسانية عز نظيرها، وخصوصا لما يتعلق الأمر بمجموعة موسيقية أغلب أفرادها مازالوا شبابا ويخوضون مغامرة تجربة عميقة لاستكشاف خبايا دور ركراكة في علاقة مع الأرض والإنسان وتراثه وثقافته الشعبية: "كل الحفلات والمناسبات التي أحييتها مجموعة أولاد بن عكيدة رفقة الشيخ إبراهيم بوظهير والشيخة هينة.. خلال تلك الفترة من دور ركراكة، كانت تتميز بحسن الاستقبال وكرم الضيافة، واحترام الفن الشعبي ورواده، وكانت كل الفضاءات التي اشتغلنا فيها تعكس سلوك ركراكة الراقي في صناعة الفرجة والفرح بطقوس طابعها الأصيل حب الناس وطيبوبة الأخلاق".

 

روعة تنظيم الحفل يعكسه، حسب الشيخ بوجمعة، أثاث تقليدي وضع بعناية وهندسة رائعة وسط خيمة الحفل الفني، زرابي وأفرشة ووسائد تقليدية، وموائد تضم صحون المكسرات من الفواكه الجافة، والتمر، وفي زاوية مؤمنة وضعت (مجامير ومقاريج) نحاسية، استعدادا لتقديم صواني الشاي .."، يزيده جمالا نور "لامبة" الذي يشع بياضا ليعكس حقيقة وجوه رسمت عليها خرائط العشق في حضرة رجال لبلاد .

"مرحبا بالشياخ، مرحبا بالشرفة، مرحبا وزيد القدام"، هكذا يتم استقبال مجموعة الشيوخ وفناني الحلقة، وتنطلق الأدعية من أفواه شرفاء ركراكة، ليحيطوا أفراد المجموعة بدعوات الخير والسداد والتوفيق في صنعتهم الفنية .

 

بخصوص وجبة العشاء التي سيتم تقديمها خلال الحفل الفني أفاد بوجمعة بن عكيدة قائلا: "في غالب الأحيان يتكلف شخص من أعيان القبيلة أو الدوار لإقامة الحفل بتمويل خاص، وتوفير كل مستلزمات الضيافة، من مأكل ومشرب، أو تتم العملية بشكل تضامني بين الأسر والعائلات، وفي حين آخر تتكلف كل الأسر بإعداد وجبة طاجين باللحم ومختلف الخضر حسب إمكانيات الأسرة والفرد".

عند انطلاقة الحفل الفني يتم استقبال كل المدعوين والوافدين والضيوف داخل الخيمة، وتحضر المجموعة بعد قسط من الراحة في غرفة خاصة وارتدائها ملابس خاصة باللحظة، وتتوسط خيمة الحفل، تحت تصفيقات الجمهور وترحيبه "لم تكن في تلك الفترة مكبرات الصوت، كنا نعتمد عل أصواتنا، وآلاتنا الموسيقية التقليدية، وهدوء وسكينة الجمهور العاشق لتراثه الشعبي، الكل يستمتع ويصغي للنغم والطرب والغناء دون ضجيج أو مشاكل مفتعلة، وبين الفينة والأخرى يفسح المجال لفنان حلايقي ومرافقيه لتقديم وصلتهم الفنية الساخرة التي تستند على مواضيع اجتماعية، تشخص عن طريق التمثيل في قالب كوميدي لصناعة الفرح والضحك بين الحضور وشرفاء ركراكة".

 

حفل السمر الليلي يضبط مساره شخص وقور له سمعته الطيبة والكلمة النافذة بسلوكه وأخلاقه ومعاملاته، يستجيب بسرعة البرق لمتطلبات الضيوف، يوزع الابتسامة على الجميع، يحف الصغير والكبير بدعوات الخير، يقدم خدماته بأريحية في حضرة أهال ركراكة، "حين حلول ساعة وجبة العشاء، توزع الموائد على جموع الحاضرين بنظام وانتظام، وتتقاطر على الخيمة عشرات (الطواجن) المختلفة الأشكال والأصناف المرفوقة بالخبز البلدي، وتخصص مائدة للمجموعة الغنائية بحفاوة".

أبواب الحفل مفتوحة في وجه أهالي القبيلة والدوار، كسلوك يعبر عن أتساع الخاطر، وتقاسم اللحظة الجميلة بعشق إنساني في احترام تام للطقوس والعادات "حين تشرف ساعة الصفر لإنهاء السمر الليلي، تعطى الكلمة لشرفاء ركراكة الذين يحيطون كل الحضور بدعوات الخير والبركة والتيسير والتوفيق، ودعاوي موسم فلاحي تعم فيه البركة ومحاصيل زراعية، على أمل تجديد اللقاء في الدور القادم"، هذه العملية تفتح الباب لجمع عطايا وهدايا مالية خاصة بالمجموعة الغنائية التي لم تتفاوض على مستحقاتها "يتبرع الجمهور كل حسب قدرته، ويتم جمع تلك البركة وتسلم للمجموعة دون حرج".

 

هكذا كانت معاملات مجموعة أولاد بن عكيدة رفقة الشيخ إبراهيم بوظهير والشيخة هنية مع كل زبنائهم، ويتنقلون من موسم لآخر بنفس الطقوس والعادات وبنفس الاستقبال طيلة أيام دور ركراكة.