الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (5)

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (5) "مول العودة " يتوسط الشيخين محمد ولد الصوبة وحسن الضاحي

تمكن الوباء اللعين "كورونا" من تأجيل موسم طواف شرفاء "ركراكة" برسم سنة 2020، ووقفت الجائحة سدا منيعا ضد قبائل ركراكة والشياظمة وعبدة ودكالة وغيرهم في إحياء سنة التواصل الروحي والإجتماعي والإقتصادي.. وحرمتهم من الإحتفاء واستحضار موروتهم الشعبي وعاداتهم وطقوسهم وتقاليدهم التي ألفوا إقامتها كل سنة في فصل الربيع (بعد خروج الليالي).

 

في سفر" أنفاس بريس" و النبش في موضوع ظاهرة موسم طواف "ركراكة" الضارب في القدم، بعد الإستعانة في الحلقة الأولى ببعض المصادر التاريخية التي تناولت "السبعة رجال" والتعريف بهم، وبعلاقتهم بالمجال والإنسان، وكيف استوطنوا الأرض وقاوموا الغزاة، للمحافظة على استقرارهم وأمنهم واستمرار نسبهم، وصولا إلى ترسيخ هذا الموسم السنوي الذي يحج له المغاربة من كل أنحاء الوطن لإحياء صلة الرحم.

 

قدمنا في الحلقة الأولى ملخص لمحة تاريخية عن "ركراكة" و "السبعة رجال" والسفر في زمن حروبهم و صراعاتهم مع المحتل و الغزاة، و كيف استطاعت القبلية ضمان استمرارها إلى اليوم.

 

في الحلقة الخامسة من ذاكرة (مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم)، ننهي سفرنا مع الفنان الشيخ محمد ولد الصوبة، الذي خص الجريدة بحديث شيق عن تقاليد و طقوس وعادات موسم زاوية سيدي حساين، كمحطة أساسية من محطات موسم ركراكة (نبدا نمجد يالحباب/ في سيدي حساين مول الباب/ يجوه صغار وشياب/ ولعيالات هوما الكثرا).. وحكى عن والده سي عبد الله الصوبا كيف كان يستعد لاستقبال الدور وضيافة أهل ركراكة، ومتى اكتشف ميل ابنه سي محمد للعزف على آلة الكمان ومرافقة رباعة الشياخ في أداء فن العيطة ...

نرفع القبعة والتحية للفنان حسن الضاحي الذي انخرط في هذا العمل من خلال تقديمه لأغنية قصيدة "ركراكة" التي نظمها خاله المرحوم الفنان حميد لميس خلال فترة السبعينيات.

 

"واسمع الراجل واسمعي يا لمرا

انتوما ركراكة لحرار

تحكموا في الغذار

موالين الخيمة الحمرا

فتاحين المغرب

يجيكم كل حبيب

يقضي غارضو بخطرا"

 

"بركة ركراكة ورضاة الوالدين" كانت سببا في صناعة الشيخ ولد الصوبة

 

في حكيه التلقائي عن شخصية الفنان "المولوع" بفن العيطة، و التي بدأت تتشكل صورتها لدى الشيخ سي محمد ولد الصوبة في حضرة ناس القبيلة خصوصا أثناء إقامة بعض الأعراس والحفلات وليالي السمر، والتي تناقلت الألسن علو كعبه بالمنطقة، وكيف رسمت قدرته على التفنن في حمل آلة الكمان بأنامله الساحرة ليرمي بقوسه وعزفه الأنيق أفئدة المتلقي من جمهوره، حيث كشف الشيخ ولد الصوبة أسرار البداية التي بصمتها فسحة موسم زاوية سيدي حساين مول الباب خلال فترة دور ركراكة.

"كنا نحن (تاكدة) من شباب المنطقة نقيم في نقاشنا جودة أداء المجموعات الموسيقية التي سبق لها أن قدمت عروضها في الموسم، ويستقر رأينا على اسم (رباعة أو إثنين) التي ستصنع الفرح والفرجة ليلة الخميس بموسم سيدي حساين، ونعد العدة لتلك الليلة، ونستنفر كل مجهوداتنا لتأثيث الفضاء وتجهيزه وتنظميه، وإعداد سيناريوهات برنامجنا بكل تفاصيله الدقيقة حتى نضمن كل شروط السمر الفني والموسيقي و الحكواتي (لفراجة) للجميع". ولم يفت ولد الصوبة أن يؤكد على أن عروض الفرجة "يسمح فيها لشيوخ الحلقة، والفرق الموسيقية المتنقلة مع الدور من موسم لآخر أن تقدم عروضها أمام المدعوين في ساحة أنشطتنا بكل أريحية".

بالنسبة للشيخ ولد الصوبة وأقرانه في تلك الفترة الذهبية تعتبر ثلاثة أيام من موسم زاوية سيدي حساين فرصة العمر "سنة بأكملها ونحن نعد الأيام والليالي والأسابيع والشهور لاستقبال دور ركراكة، لا شيء يجمعنا ويفرقنا إلا الحديث عن عادات وطقوس وتقاليد الأجداد والحرص على تطبيقها حرفيا لضمان راحة الشرفاء الركراكيين وصلة الرحم مع الضيوف والزوار وأهالي الدوار والقبيلة ".

خلية نحل تشتغل بكل مرافق البيت العامر عند عائلة الصوبة "في ركن خاص بالذبائح تعلق سقائط لعجل والخرفان، ورائحة إعداد مختلف الأطعمة وطهي الخبز والفطائر تملأ أركان الدار لكبيرة، وعماير السكر والشاي بجانب أواني نحاسية وفضية ترافق صواني الشاي التي تؤثث موائد الضيافة مع صحون المكسرات والحلويات، في مشهد يعكس الكرم الحاتمي، وتعبيرا عن حسن الضيافة والاستقبال لشرفاء ركراكة الذين يستحقون ذلك".

ليلة الخميس بموسم سيدي حساين حسب ولد الصوبة كانت محطة للنشاط والفرجة والاستمتاع بالتراث الشعبي تحت الخيمة "كان شباب تلك الفترة يعكس عن جدارة واستحقاق مفهوم القيم والأخلاق والاحترام، همه الوحيد أن يقدم الخدمة الاجتماعية للضيوف، ويساهم في التنظيم، ويسهر على إنجاح فقرات ليلة السمر في حضرة الجمهور الوافد من مختلف تمثيليات القبيلة ورجال ركراكة".

وأكد على أن البيت العامر لوالده سي عبد الله الصوبة "مرت منه العديد من المجموعات الموسيقية الشعبية، وكبار الشيوخ و الشيخات في الزمن الجميل، واستقبل أهرامات فن الحلقة، وشرفاء ومقدمين ركراكة، وأعيان القبيلة، وكانت تمر ساعات الفرح في أحسن الأجواء الاجتماعية دون أدنى مشكل..كانت ليلة لا توصف".

كان سي محمد ولد الصوبة في بداية تعلقه بسحر أنغام الكمان وآلة لوتار، وإيقاعات وأصوات شيوخ وشيخات العيطة، وقبل حلول ليلة الخميس محطة السمر الليلي ملزم بشراء بطاريات مسجلته التي تعتبر رفيقة دربه في توثيق العيوط والسواكن و البراول، في غياب الطاقة الكهربائية بالمنطقة، ويعد العدة لتسجيل مقاطع غنائية من كل الأنماط والألوان الموسيقية الشعبية حيث يقول: "أتأبط المسجلة والأشرطة الفارغة، واختار مكانا بالقرب من الرباعة، حتى لا أضيع توثيق العزف والأغاني وكلام العيطة وأحرض على ذلك اشد الحرص" .

هكذا تمكن شيخ المستقبل من تسجيل أغلب العيوط القديمة، بأصوات شيوخ و شيخات العصر الذهبي، ويعيد الإستماع إليها في خلوة محرابه الفني في ركن أو زاوية يعم فيها الهدوء والسكينة للإلتقاط أسرار "تاشياخت" من أفواه فطاحلتها.

"انتقلت إلى مرحلة الجرأة والتمرد والبوح" يقول ولد الصوبة حيث بدأ يقتحم عالم العزف على الكمان أثناء تواجده ببعض الأعراس والحفلات سواء بالدوار أو القبيلة ككل " كنت أتسلم آلة الكمان من بعض الشيوخ وأرافق الرباعة في العزف، واقتحمت عالم العزف لأبوح للجميع بأني شيخ، وقادر على حمل لواء فن العيطة، وتمردت بجرأة فنان ومبدع على حواجز المنع، فصفق الجمهور لأدائي المتميز وقدرتي على اقتفاء أثر العازفين المهرة...لكن كانت هناك أصوات نشاز و معارضة لهذا الإختيار المفاجئ".

حماس ولد الصوبة في تقديم وجبات ووصلات موسيقية وغنائية رفقة بعض المجموعات الموسيقية خلال الأعراس والحفلات بالدوار كان محفزه فيه "عشقه الكبير للفن الشعبي، وانضباط الجمهور، ورغبته في الإصغاء والاستمتاع بفن العيطة.. كانت الفرجة تتم في جو احتفالي باذخ، دون ضجيج أو مشاكل...الهدوء التام هو سيد الموقف لما أنطلق في العزف رفقة الرباعة وأنا مازلت هاويا".

وعن موقف والده شيخ القبيلة سي عبد الله الصوبة والعائلة من اقتحامه لعالم الموسيقى والغناء الشعبي أوضح سي محمد ولد الصوبة مبتسما " كنت أعلم بأن والدي قد وصلته أخبارا عني، من بعض الجواسيس الذين كان همهم إثارة المشاكل، لكنه لم يفاتحني في الموضوع نهائيا...وكنت أحتاط من اكتشافه لي ".

لكن أتت رياح التغيير بما يشتهي سي محمد ولد الصوبة وهو مبحر على متن باخرة الفن الشعبي ليوضح بقوله: "سأبوح لكم بسر، هو حادث وقع لي مع الوالد رحمة الله عليه وأنا مازلت هاويا ولم أحترف بعد... كنت وسط جموع ساكنة الدوار في ذروة عرس من الأعراس، في أوج العزف رفقة الرباعة منغمسا بوجداني وأحاسيسي مع الآلة والإيقاع وأصوات حناجر الشيخات، ولما انتهيت مباشرة من الوجبة الغنائية، قدم إلي شخص أعرفه وناولني مبلغا ماليا وقال لي: (أبوك معجب بعزفك وأدائك، لقد أرسل إليك هذا المبلغ عربون اعتراف وتقدير...وقال ليك راك فنان الله يرضي عليك) ". نعم، لم يكن يعلم سي محمد ولد الصوبة أن والده يتابع عروض الغناء وقد تم استحضاره ليرى بعينيه ابنه الشيخ.

كانت لحظة فارقة في حياة ولد الصوبة ومنعطفا فنيا في مساره حيث قال: "أحسست بالخوف والفرح، وتجمد الدم في عروقي، ونشف حلقي، وتسمرت في مكاني بعد أن وضعت آلة الكمان أمام شيخ الرباعة". لاحظ سي عبد الله الصوبة ارتباك ابنه سي محمد فأرسل إليه مرة أخرى نفس الشخص بعد أن حمله وصيته التي مفادها: "قال لك الوالد استمر في غنائك واتحف الجمهور بعزفك لقد نلت إعجابي كثيرا، الله يوفقك ويصلحك".

كسب الشيخ ولد الصوبة قلب والده في صفه، ونال رضاه أمام الحضور بعد أن استقطب جمهوره العريض من أبناء القبيلة، لكن في نفس الوقت شاع الخبر بين أفراد العائلة التي عبرت عن رفضها لاختياره الفني "لا أخفيك سرا إن قلت لك أنه بعد ذلك المشهد انطلقت الأقاويل والإشاعات المغرضة لتأليب الوالد ضدي، وارتفعت أصوات من داخل العائلة تطالب برأسي، لأنني في نظرهم أسأت لهم باختياري، إلى درجة مقاطعتنا نهائيا"

إيمانه القوي باختياره الفني وانتمائه لدائرة شيوخ العطية والغناء الشعبي، وتمرده ضد بعض أفراد العائلة شجعه فيه والده سي عبد الله الصوبة شيخ القبيلة الذي كان رده على هذه الخرجات من وسط بعض أفراد العائلة "إنه إبني وفلذة كبدي، وأنا راض على اختياره كشيخ متمكن من الصنعة والحرفة وأتمنى له التوفيق في مشواره ..(عجبني ولدي شيخ مكمول الله يكمل عليه والله يسخر ليه ولا أريد أن يتدخل في شأنه أي أحد)".

هذا الموقف الأبوي، اعتبره الشيخ ولد الصوبة انتصارا في حياته وفي مساره الفني الذي نال ثقة وإعجاب والد شيخ القبيلة المرحوم سي عبد الله الصوبة رحمه الله.

وعن سؤال للجريدة أفاد الشيخ قائلا: "فرق كبير في أجواء احتفالات دور ركراكة بين الأمس واليوم، موسم سيدي حساين خاصة ودور ركراكة عامة تغيرت أحواله، ولم تعد لمواصفات الشباب الحامل لقيم الأخلاق والاحترام وجود في أوساط المنطقة، تغير في السلوك، وأنماط الحياة ، وأضحى القلق والعنف لصيق بسلوكيات البعض، مع اختراق ظاهرة الإجرام والمخدرات والقرقوبي... "، وتأسف على أنه "لم يعد بمقدورنا تنظيم ليالي السمر في جو اجتماعي حميمي". إلا أنه يصر على إحياء " عادات وتقاليد الأجداد والوالد في استقبال وفود شرفاء ركراكة وفق الطقوس التي ورثناها أبا عن جد".