الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (4)

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (4) الشيخ محمد ولد الصوبة مع مول العودة وأطباق الكسكس

تمكن الوباء اللعين "كورونا" من تأجيل موسم طواف شرفاء "ركراكة" برسم سنة 2020، ووقفت الجائحة سدا منيعا ضد قبائل ركراكة والشياظمة وعبدة ودكالة وغيرهم في إحياء سنة التواصل الروحي والإجتماعي والإقتصادي.. وحرمتهم من الإحتفاء واستحضار موروتهم الشعبي وعاداتهم وطقوسهم وتقاليدهم التي ألفوا إقامتها كل سنة في فصل الربيع (بعد خروج الليالي).

في سفر" أنفاس بريس" و النبش في موضوع ظاهرة موسم طواف "ركراكة" الضارب في القدم، بعد الإستعانة في الحلقة الأولى  ببعض المصادر التاريخية التي تناولت "السبعة رجال" والتعريف بهم، وبعلاقتهم بالمجال والإنسان، وكيف استوطنوا الأرض وقاوموا الغزاة، للمحافظة على استقرارهم وأمنهم واستمرار نسبهم، وصولا إلى ترسيخ هذا الموسم السنوي الذي يحج له المغاربة من كل أنحاء الوطن لإحياء صلة الرحم.

قدمنا في الحلقة الأولى ملخص لمحة  تاريخية عن "ركراكة" و "السبعة رجال" والسفر في زمن حروبهم و صراعاتهم مع المحتل و الغزاة، و كيف استطاعت القبلية ضمان استمرارها إلى اليوم.

في الحلقة الرابعة من ذاكرة (مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم)، يستمر حكي الفنان الشيخ محمد ولد الصوبة، الذي خص الجريدة بحديث شيق عن تقاليد و طقوس وعادات موسم زاوية سيدي حساين، كمحطة أساسية من محطات موسم ركراكة (نبدا نمجد يالحباب/ في سيدي حساين مول الباب/ يجوه صغار وشياب/ ولعيالات هوما الكثرا).. وكيف كان والده سي عبد الله الصوبا يستعد لاستقبال الدور وضيافة أهل ركراكة... مع رفع القبعة والتحية للفنان حسن الضاحي الذي انخرط في هذا العمل من خلال تقديمه لأغنية قصيدة "ركراكة" التي نظمها خاله المرحوم الفنان حميد لميس خلال فترة السبعينيات.

 

"واسمع الراجل واسمعي يا لمرا

انتوما ركراكة لحرار

تحكموا في الغذار

موالين الخيمة الحمرا

فتاحين المغرب

يجيكم كل حبيب

يقضي غارضو بخطرا"

 

في خضم طقوس الأجواء التراثية و الإحتفالية التي كان يصنعها فرسان التبوريدة، و رواد فن العيطة والغناء الشعبي والحلقة، خطفت أنغام الكمان وآلة لوتار، وإيقاعات الغناء الشعبي، وصيحات الشيخات الطبعات، وميازين النواصر، و وقع حوافر الخيول في محرك التبوريدة، (خطفت) عقل الشاب محمد ولد الصوبة، وتسللت إلى قلبه واستوطنت فؤاده بمزيج من توابل البركة والكرامات التي طبع بها أهل ركراكة في حضرة الأولياء والصالحين موالين الحال.

خلال هذه الفترة وجد سي محمد ولد الصوبة نفسه في قلب "العيط" بميله بكل جوارحه ووجدانه لفن "العيطة" و "لهوير" و "الشايظمي"، وغناء "السواكن" لمناجاة أولياء الله، وانتابه شعور بالولع اتجاه "تشياخت" وأحس أنه قادر على الولوج من باب الغناء الشعبي وفن العيطة إلى قلوب الناس بعد أن تسللت إلى جوارحه وشرايين قلبه دماء "ثقافتنا الشعبية" عن طريق طواف دور ركراكة (44 ولي صالح)، في حضرة الرواد من الشيوخ و الشيخات والممارسين لهذا اللون الأخاذ، وأهرام فن الحكواتي، وفرق عبيدات الرما وعيساوة ...فكيف ومتى تسلم سي محمد ولد الصوبة قوس رماة العيطة والغناء الشعبي؟

ساعة الصفر بموسم سيدي حساين مول الباب، تحيلنا إلى الرجوع لموضوع انتهاء موسم الزاوية والزيارة (عصر يوم الجمعة) بعد انصرام ثلاثة أيام في أجواء ربانية وطقوس صوفية، وتواصل إنساني وفني واجتماعي واقتصادي..، دون التفريط في ساعات طويلة من الفرجة والفرح في محرك الخيل والبارود، وتحت سقيفة خيمة الطرب والنغم و الحكواتي وطقوس الجدب والرقص والغناء والموسيقى التقليدية: "في اليوم الثالث من عصر يوم الجمعة وبعد وجبة الغذاء، والدخول في غمرة توديع وفد ركراكة، يتم هدم الخيمة الحمراء، ونقلها على متن الناقة رفقة (مول العودة) نحو المسجد لتوديع أهالي المنقطة والزوار وضيوف الموسم" يقول سي محمد ولد الصوبة الذي سافر عبر هذه الأجواء لمدة تزيد عن 58 سنة خلت.

في هذا السياق أكد ضيفنا على أن "توديع وفد ركراكة من أمام مسجد الدوار عصر يوم الجمعة، يتميز بمرافقتهم بزغاريد نساء أهل القبيلة، وبمثل أهازيج وحفاوة الاستقبال، وبنفس الابتهاج والفرح الذي يغمرنا ونحن نستقبل الدور بالزاوية في الليلة الأولى، رغم القلق والحزن الذي يساور كل الجموع بفعل انصرام ثلاثة أيام بسرعة البرق..ينتابنا إحساس غريب ونحن نودع الموكب بدموع الفرح في انتظار السنة الموالية".

يحكي ولد الصوبة بشوق وحنين قائلا: " نحن شباب الدوار كنا نحصي الساعات ونعد الأيام والشهور في انتظار دور ركراكة ومحطة موسم سيدي حساين مول الباب، لا شيء يشغل بالنا سوى ساعة الصفر لانطلاقة موكب الشرفة ركراكة، لكن للأسف كنا نذرف الدموع أثناء توديع الموكب"، وأفاد في هذا السياق "لما يتم هدم الخيمة الحمراء وحملها على الناقة بعد صلاة العصر، وانفضاض لمة الخير بأرض سيدي حساين، كنت أجهش بالبكاء، وأضرب عن الطعام والكلام، وأنزوي لوحدي استرجع صور ومشاهد حركة الموسم، وتمتد فترة حزني أكثر من 48 ساعة ..وأمني النفس بلقاء جديد في السنة الموالية"

 في مرحلة شبابه استحضر ضيف الجريدة مشاهد تؤرخ لذاكرة الفرح داخل البيت العامر لوالده المرحوم سي عبد الله ولد الصوبة خلال موسم الزاوية: "كان الوالد رحمة الله عليه مولوعا، يعشق الطرب والنغم، ويستهويه الاستمتاع رفقة ضيوفه وأفراد العائلة لنداءات العيطة.. لقد عشنا لحظات رائعة في حضرة فنانين كبار وأهرامات من شيخات وشيوخ العيطة من أمثال، الشيخ امبارك، والشيخ الدعباجي والشيخة عيدة، و الشيخة الحامونية، والشيخ ولد الحلاوي، والشيخ الزوادح، والشيخ الصاحيب، والشيخ فليفلة، وغيرهم. وفطاحلة غناء لهوير وغناء الشايظمي وفرجة مجموعات عبيدات الرما النواصر، وشخصيات ذات باع طويل في ميدان  فن الحلقة...".

 في حضرة هذه الوجوه الجميلة والأجواء الإجتماعية والتراثية كان الشيخ سي محمد ولد الصوبة يتسلل إلى أقرب نقطة للجلوس قريبا من (رباعة الشياخ)، والإصغاء بأذنه الموسيقية لـ "تواشي وتزواق" آلتي الكمان ولوتار، و الإيقاعات المصاحبة، واستراق السمع للأصوات العذبة والشجية التي كانت تصدح بها الشيخات الطبعات في الليالي المقمرة.

فسحة لفراجة والفرح بالبيت العامر لعائلة الصوبة ليلة الخميس بموسم سيدي حساين، كانت لحظة مفعمة بالحب والإخاء بين ضيوف وفد ركراكة، والمدعويين من الأهل والأقارب و الزوار وأهالي القبيلة "تنصب خيمة تقليدية كبيرة، وتجهز بكل الأفرشة التقليدية والموائد المؤثثة بصواني الشاي، حيث يتم استقبال جمهور الفرجة، مباشرة بعد صلاة العشاء والذي يتجاوز في بعض الأحيان 600 فرد"

عن سؤالنا أوضح الشريف ولد الصوبة بأن "والده السي عبد الله كان يقوم بتربية عجل مخصوص لأهل القبيلة لينحر مع بعض رؤوس الخرفان لإطعام أهل ركراكة المدعويين والزوار والعابرين للموسم"، نعم إنها قلعة الكرم الحاتمي المتوارث أبا عن جد.

كانت هندسة معمار بيت سي عبد الله الصوبة تنقسم إلى ثلاثة أقسام معزولة بعضها عن بعض "قسم يضم الدار لكبيرة بغرفها و مرافقها، وقسم آخر يضم مرافق الدويرية المخصصة للضيوف، وغرفتين مخصصتين لاستضافة (ربايع الشياخ) طيلة ثلاثة أيام ".

 عن ذاكرة الفرجة التي يقيمها والده تزامنا مع موسم سيدي حساين يقول سي محمد ولد الصوبة "تفتح أبواب بيتنا في وجه جميع الحضور لمتابعة الحفل الفني دون تمييز، وتنطلق فقرات الحفل الفني بنظام وانتظام واحترام، بشكل يوحي أن الجمهور الطروب يستمع ويصغي فعلا لوصلات (وجبات) الموسيقى والغناء و الحكي، دون ضجيج أو شغب أو أدنى احتكاك بين مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية، ويمتد السمر الفني إلى ساعات متأخرة من الليل، تتقطعه لحظات إقامة دعاوي الخير وتقديم لغرامة (التعلاق) للشيوخ و الشيخات وأفراد المجموعات الفنية التي تتناوب على الغناء و أداء أروع العيوط والأغاني الشعبية ذات طابع الساكن وغناء لهوير و الشايظمي " .