الجمعة 19 إبريل 2024
مجتمع

الدكتور محمد شهبي كما أعرفُه.. "حاكمُ" كاليفورنيا الذي لا يفارقُ عرشَه

الدكتور محمد شهبي كما أعرفُه.. "حاكمُ" كاليفورنيا الذي لا يفارقُ عرشَه الدكتور محمد شهبي

لم يكن الموضوع هيّنا أو بسيطا.. كان المشهد قاسيا أن ترى طبيبا بقامة الدكتور محمد شهبي طريحا على الفراش. في عقولنا الأطباء يُعالِجون ولا يُعالَجون.. الطبيب لا ينام عادة على سرير، لا يُكتَب له الدّواء، هو الذي يكتُبُ الدواء بخطّ "ركيك" وبحروف تشبه "الطّلاسم" و"تعويذات" السّاحرات. أطرح على نفسي في كل مرّة هذا السّؤال: كيف يستطيع الطّبيب حفظ كلّ هذه العناوين من الأدوية؟ الملايين من أسماء الأدوية تُصَفّ في ذهن الطبيب كأنّ عقله "شريحة" و"مصفوفة" تتقاطر منها الأسماء الغريبة، ولا يخطئ حتى في تَهْجِيَة حروفها وكتابتها من دون أن يرتكب خطأ ما.. أي تحريف لكتابة عنوان دواء معناه أنّك لا تستحق "نبل" أن تكون طبيبا. بعد كتابة اسم الدواء يحدّد لك الطبيب الجرعات ومواقيت شرب الدواء، يشبه الأمر هنا طقوس صلاة لا تنال توابها إذا لم تقم بشعائرها في أوقاتها.

 

شيء قليل من الأثقال التي يحملها الطبيب، وهو يحمل روحك على راحة كفّه ويخاف من أن تتسرّب وتنفلت كقطرة ماء من بين أصابعه.

 

فكم ندفع إلى من يعالجون الأرواح؟ ما هو ثمن من يرمّمون جراح الأرواح.. من يسقون شتلاتها من نسغ الحياة ونبع الوجود؟ تلك الحياة التي تشبه "بيضة" سريعة العطب إذا لم نحافظ عليها.

 

عَبَرَتْني هذه المشاعر المتناقضة وأنا أزور الدكتور محمد شهبي في معبده بمصحة العين كاليفورنيا. كان مثل "ناسك" يضع أغلالا ورباطا في معصميه وقدميه حتى لا يغادر نسيجه. هو جزء من عبق هذا المكان، ينصت لكل نبض حجر فيه، يخاطب الجدران، تعرفه الأبواب، تصافحه السلالم، تبتسم في وجهه المصاعد، يحضنه العشب الأخضر. هنا بمصحة كاليفورنيا لا تبدو وحيدا.. مكان دافئ بخفقات القلوب، ورفّات الجفون الضّاحكة، وترانيم طيور بيضاء. ليس غريبا أن تختار الطابق العلوي لتمدد بدنك على سرير تحفّه الأزهار والفراشات. النافذة الزجاجية الواسعة مفتوحة على "المنظر العام" الذي يقودك رأسا إلى حضن والدتك. من حضن إلى حضن يمكن أن تعدّ خطوات قدميك.. المسافة قريبة على بعد خفقة قلب لتتوضأ من دموع عينيها.. لترمي لك وشاح صلاتها.. تنسج منه قماطا وتهدهدك بأرجوزة أمازيغية كي تنام من التعب. من النافذة الزجاجية يشرق ضوء عينيها، يطبع على جبينك قبلة حب وحنان، لذا قلتُ لكَ نحن نعيش بترياق أمّهاتنا.. نتطهّر بدموعهن.. أليست الجنة تحت أقدام الأمّهات؟!

 

افتح عينيك.. هي مجرّد إغفاءة.. كابوس يتلاشى مع رشفة هواء. طوابير المرضى الواجمين في الطابق السفلي ينتظرون أدوارهم لترفع ستائر الليل عن عيونهم لحضور احتفال زخّات المطر.

 

تعبرُني عشرون سنة.. أتذكّر منها "معركة أنوال" ورصاص البنادق الذي اخترق صدرك.. معركة أنهتك لكنّك رفعت في النهاية أعلام النصر.. وَسَمُ "العين" الذي يعلو تلك البناية الزجاجية الزرقاء كان هو شارة النصر. في تلك البدايات كنت تقاوم التيارات على متن مركب خشبي بلا مجاديف أو طوق نجاة من عيادة "باستور" إلى مصحة "أنوال". الطريق إلى النجاح غامض وطويل، وأنت اليوم في منتصف الطريق.. من قال هذه هي النهاية؟ مازالت خيول الرّهان تواصل العَدْو والصهيل في صدرك. نهاية الطريق مازالت طويلة، فالأطباء لا يشيخون، ولا ينامون حتى شروق الشمس، ولا يدمنون الأسِرّة الدافئة.

 

 

أتذكّر كل تلك البدايات، قرأت في عيونك كم هو شاقٌّ أن تكون طبيبا في عالم يرسم وجه الطبيب بفرشاة مغموسة في ألوان الطّين. أتذكّر أن تلك الصّلابة التي تحاول تُظْهِرَها أمام الآخرين لا تعكس "الطفل" الذي يسكن بداخلك، سرعان ما تطفو تلك "البراءة" في لحظة "انكسار"، سرعان ما تفرّ الدّموع. لحظة وفاة نورالدين كرم اختلط صوتك بالدموع في الهاتف.. سقط قناع الصلابة الذي كنتَ ترتديه، ولبست سحابة حزن، وجعلك ألم الفقدان تبدو هشّاً وسريع العطب.

 

هذا هو محمد شهبي الذي أعرفُه، مُفْرِطً في إنسانيته، يوغِل في الحبّ إلى حدّ "التطرّف" و"الإخلاص"، لذا لا تخونوا هذا الحبّ، ولا تطعنوا هذا "الإخلاص" بخناجر الغدر، لأن محمد شهبي عاطفيّ بامتياز إماّ أن يحبّك بجنون أو يكرهك بجنون، لا توجد في حياته المنطقة الرمادية.. إمّا أن تكون أو لا تكون.. لا يراك إلاّ بالأبيض أو الأسود.. الوجوهُ "الملوّنة" لا يعرفها في حياته!!

 

ذلك المشهد لم يكن بسيطا، عشرون سنة أوّل مرة أشاهد الدكتور محمد شهبي متكوّرا في سرير.. كان بقلب نحلة يمنح للعيون رحيقها.. ذلك الرجل المغروس في الفراش أخاله شبحا للدكتور شهبي..

 

ما رأيته لم يكن سوى كابوس سرعان ما سأستيقظ منه.. في الزيارة القادمة لكاليفورنيا سأصعدُ الطابق العلوي لأتأكد من أن المريض الذي رأيته ممدّدا على السرير ليس هو محمد شهبي "حاكم" كاليفورنيا.. محمد شهبي كما أعرفه لا يفارق عرشه بغرفة العمليات بالطّابق التحتي يغازل العيون ويفتح ستائر نوافذها المغلقة.