الثلاثاء 16 إبريل 2024
فن وثقافة

كوكاس : كوفيد 19 إمبراطور مارس علينا استبدادا ورعبا على شاكلة كبار الأباطرة في التاريخ

كوكاس : كوفيد 19 إمبراطور مارس علينا استبدادا ورعبا على شاكلة كبار الأباطرة في التاريخ عبد العزيز كوكاس وصورة غلاف " في حضرة الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر"

"حين يصمت العلماء والمفكرون تتكاثر المحكيات والمتدخلون من غير ذوي الاختصاص" بهذا التحذير يبدأ الكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس هذا الحوار مع " أنفاس بريس"  حول خصائص ما أسماه  الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر، ويستعرض الميزات التي جعلت الفيروس التاجي أكثر رعبا وأكثر تداولا والمتمثلة برأيه في كثرة المحكيات التي تتناثر علينا كل دقيقة عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ويعدد هنا صاحب رواية "ذاكرة الغياب" الأسباب التي جعلته يختار العنوان الطريف والمثير لكتابه الأخير.

 

لنبدأ من عتبات النص كما يقول جيرار جنيت، يبدو العنوان مثيرا بالصورة المرفقة للغلاف: "في حضرة الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر"، نحن أمام سلطة إمبراطور، من أين جاءك هذا العنوان الفخم والساخر والملفت للانتباه؟

إننا أمام إمبراطور حقيقة، فنسل كورونا قادم من الفيروسات التاجية، أي أنه سليل نسل ملوكي، يحمل اسما إمبراطوريا: الفيروس التاجي"، ليس مثل التيفوئيد والطاعون والجذري والكوليرا.. رغم أن فيروس كورونا مجهري ولا يرى إلا من خلال الأثر الخطير الذي يتركه على الجهاز التنفسي للمصابين، لكنه له سلطة إمبراطورية على الكون كله، فقد أدخل أكثر من ثلاث أرباع البشرية في حجر صحي طويل الأمد، ولا زال تهديده قائما وأعلن أغلب دول المعمور حالة الطوارئ ونزلت الجيوش ومختلف فرق الأمن إلى الشارع، وتوقف الاقتصاد وشُلّت الحركة... تأمل معي هذه اللغة العسكرية في توصيف الفيروس: مواجهة، الحرب على الفيروس، الاتحاد لهزم العدو، جنود الصف الأمامي، الصمود.. إننا في معركة، اقتحمنا الوباء بعد أن كسر خطوط هجومنا وأصبحنا نتحصن في معاقلنا التي كانت تتهاوى أحيانا كثيرة بسبب غزو الفيروس التاجي... أليس هذا إمبراطورا، مارس علينا استبداده كما فعل ذلك كبار الأباطرة في التاريخ من هولاكو إلى لويس الرابع عشر ونابليون وغيرهم، من هنا عنوان كتابي حيث أتحدث عن "كوفيد التاسع عشر" لا "كوفيد 19"، فنغمة الإيقاع في الكلمة ذاتها إمبراطورية..

 

يبدو أنك قدمت فروض الولاء والطاعة في حضرة هذا الإمبراطور حتى ألهمك هذا الكتاب، ما الذي أحدثه فينا هذا الكوفيد التاسع عشر كتجربة وجودية؟

 الجوائح والأوبئة كما التفت إلى ذلك بشكل مبكر ابن خلدون وهو يحاول أن يبني تاريخا للحضارة البشرية أو وهو يضع أسس علم يهتم بالعمران، يخلص التاريخ الإنساني من الانطباعات والميتافيزيقا والأوهام، تعتبر حدثا مفصليا في مسار أمة، إنها تعمل إلى جوانب عوامل عديدة في إنهاء أو تطوير حضارة وميلاد أخرى أو في انعطافة ما لمصير دولة، من هذا الباب طيلة مرحلة الحجر الصحي وجدت في موضوع هذا الفيروس مجالا لتعميق البحث حول الجوائح وخاصة فيروس كورونا، من هنا كان هذا الكتاب الذي يجمع بين مقالات في السخرية من الفيروس ودراسات في زعزعة الكثير من اليقينيات باعتباري إعلاميا وصحافيا، يحترم مجال بحثه ولا يدعي مزاحمة أهل الاختصاص والعلم بالموضوع، لربما لي فضيلة سبق الإنجاز عن كتابات أتوقعها لمختصين ومفكرين في هذا المجال، فالإعلام دوما يأتي مبكرا، وقد يبزغ قبل صعود الشمس لكن الفكر والفلسفة كما يقال تأتي في المساء.. لأن التأمل العميق يحتاج إلى زمن طويل، وأيضا لأن حرب الإمبراطور كوفيد 19 لم تضع أوزارها بعد، وعادة لا يمكن للفلسفة كما الشعر أن تفكر في حدث لحظة سريانه، إن الأمر أشبه في الصحافة بأن توقف شخصا مرعوبا يهرول فارا من زلزال لتطلب رأيه أو شعوره لحظة اهتزاز الأرض تحت أقدامه.. البشرية على عتبة تحول حقيقي، لكننا لا ندري وجهته ولا الشكل الذي سيكون عليه، ومن يعتقد أن العالم سيصحو غدا على ذات الوتيرة، فعليه تأمل الإسقاطات والآثار البعيدة لوباء كورونا..

 

لكن البشرية عرفت فيروسات أكثر خطرا في تاريخها ولم تكن لها ذات السلطة التي لفيروس كورونا، هل يعود ذلك فقط لأننا شهود على الإمبراطور كوفيد التاسع عشر كما سمتيه؟ أم أن للأمر أبعادا أخرى كما توحي بذلك العديد من عناوين كتابك؟

لا مقارنة بين وحوش الفيروسات المدمرة التي عرفتها البشرية وفيروس كورونا المستجد، حقيقة كان الطاعون الذبلي مثلا يقتل نصف سكان دولة ما، لكن للفيروس التاجي ميزات جعلته أكثر رعبا وأكثر تداولا، يتعلق الأمر بالمعرفة: جاءت الكوليرا والطاعون والتيفويد، والطب لم يتقدم والتعليم لم يتسع انتشاره، حتى العلماء كانوا مختلفين في تحديد الوباء منهم من يعيده للهواء الفاسد أو لبعد العقاب أو الانتقام الإلهي من فساد الكون وتخلي الإنسان عن شرع الله، لكن اليوم نحن نعرف ونعلم أن الفيروس له سلالة قادمة من السارس، وأصبحنا نعلم كيف ينتقل عبر اللمس أو الرذاذ المتطاير من الفم أو الاستنشاق أو العين حين نلمس بها أيدينا التي وضعت على سطح ملوث بالفيروس، وأخذنا نسارع لكشف لقاحه ونتطهر ونحافظ على التباعد الاجتماعي ونكيف حياتنا مع إكراهات الفيروس.. بعد آخر أعطى لكوفيد التاسع عشر سلطته وهو المحكيات التي تتناثر علينا كل دقيقة، على شكل صور ورسوم، فيديوهات تراجيدية حزينة أو كوميدية ساخرة، نكت، وصايا، أخبار مزيفة وأخرى ذات طابع سحري، وأخرى طبية وأخرى سياسية، وأخرى من مشعودين أو من نجوم وسائل التواصل الاجتماعي.. كل واحد منا أصبح في وضع شهرزاد التي فدت حياتها وحيوات باقي النساء بالحكي، كأن مسرور السياف بأمر من شهريار الدموي، يضع سيفه على رقبة كل واحد منا: "احك حكاية وإلا قتلتك"، كل واحد منا يلعب دور شهرزاد بطريقة ما يحكي ويديم الحكي ويقطعه في أشد المفاصل إثارة، هكذا بالحكي ننفلت من الموت الذي يهددنا..

 

تقصد أن وسائط التواصل الاجتماعي هي التي أعطت هذه الهالة لفيروس كوفيد 19، لكن نحن نرى أن الوباء فتاك وقاتل وحصد العديد من الأرواح ويهددنا بموجة ثانية لا نعلم بعدها كما سيكون عدد ضحاياه؟

أنا لا أهون من سطوة الفيروس وأنه فتاك وشرس ومخاتل، لا أبدا.. وإنما أقصد أن "جمالية" كورنا كونه جاء في زمن وسائط التواصل الاجتماعي، التي جعلت المعلومات تنتقل بسرعة البرق، وليس كل ما يتم تداوله صحيحا، كثرة المحكيات عن الفيروس مختلفة من حث الوظائف من التضليل إلى التوعية، من التحذير إلى التجييش، من التحريض إلى التضخيم، من النصح إلى التعتيم، أو الالتباس وإدخال الجمهور في دائرة الغموض أو العتمة...

 عشرات الآلاف من المحكيات تتقاطر علينا من الأخبار الصحيحة إلى تلك الزائفة إلى نظريات المؤامرة، نكت، قصص واقعية أو مختلقة أو متخيلة.. فيديوهات ورسوم وتعليقات مصاحبة لصور بمختلف اللغات واللهجات... ومصادر هذا السرد "الفيروسي" - إن جاز التعبير- غير المسبوق في التاريخ، متعددة من أطباء وسياسيين ومواطنين عاديين، من نساء ورجال وأطفال وشباب من جنسيات مختلفة، موضوعها كلها هو كل ما يحيط بالإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر، هذا الحكي خطير وله وظائف عديدة وله أثر زاد من وقع هذا الوباء علينا.   

 

تحدثت في كتابك عن زلزلة نمط الاستهلاك، وقد كان مثيرا أن يهرع الناس عبر العالم حتى المتقدم منه إلى تجفيف الأسواق من المواد بشكل زائد عن الحاجة، نوع من الشراهة في الاستهلاك، هل كنا نخاف على انقضاء المؤونة مع بداية الجائحة؟

كان ملفتا للانتباه ونحن نرى مثلا أشخاصا وقد وضعوا في عربات التسوق أكواما من ورق المراحيض، لاحظي كيف استرخَصَنا النموذج الشره للاستهلاك، تحضرني هنا حكاية التطهير بمعنى التعميد المسيحي، الإنسان عبر هذه الأكوام من ورق المراحيض يخشى الموت ويريد التطهر وألا تعلق بجسده الأدران ويموت طاهرا، هذه اللحظة لا يمكن التمييز فيها بين عالم متقدم وآخر متخلف، لأنها تعكس الجانب الافتراسي الكامن فينا كبشر، هذا التجفيف لمنابع التسويق في تقديري، يعكس بعدا آخر هو أن الإنسان هو الذي صنع هذه السلع والبضائع.. هو الذي منحها شهادة الميلاد، وحدد تاريخ صلاحيتها، أي موتها، ومع انتشار فيروس كورونا الذي هددنا بقيامة العالم، أصبحنا نخشى أن نموت أو أن ننقرض وتبقى بعدنا هذه البضائع حية، نخشى أن تتحلل من سلطتنا وترسم حياتها الخاصة بعيدا عنا، أحسسنا بنوع آخر من الاستيلاب كما تحدث عنه ماركس، تحضرني دعابة من وسائط التواصل الاجتماعي تبرز علبة لسمك السردين تنتهي صلاحيتها عام 2024 وعليها تعليق: السمك في هذه العلبة يعرف متى سينتهي ونحن قد نموت قبل نهاية صلاحية علبة سردين).. لذلك هرعنا إلى الأسواق وجفّفناها، كأننا نريد أن نحمل معنا إلى قبورنا تلك البضائع أيضا، محاولة لإعدامها وإنهاء صلاحيتها معنا خوفا من أن ترسم حياة جديدة لنفسها بعد انقراضنا.. وعلى ذكر الانقراض فقد لفت انتباهي في هذا الكتاب تعليق في وسائط التواصل الاجتماعي زمن الحجر الصحي، لكلب بشاطئ ممدد فوق سرير شاطئ على ظهره، بتعليق: "شوف ولد الكلبة كي مكعشم(مستلق بزهو) يصحاب (يظن) ليه انقرضنا؟" إنه الخوف من أن تبقى الكائنات والبضائع بعدنا، لذلك كنا نغار ونحن نرى حيوانات البراري التي استغلت فرصة احتجازنا القصري، لتخرج وتملأ الشوارع العامة ونحن مغلق في منازلنا تحت استبداد الإمبراطور كوفيد 19 المعظم.

 

اجتهدت الكثير من التنظيرات في الحديث عن نهاية العالم ذي القطبية الأحادية، ونظام الاستهلاك المرتكز على المال بدل الإنسان، وعن تبدل مصير الموقع الجيوسياسي للعالم، وقد رسمت في كتابك ثلاثة سيناريهات لما بعد كورونا، الآن بعد هذه المدة هل لا زلت متمسكا بما عبرت عنه في كتابك "في حضرة الإمبراطور المعظم كوفيد 19"؟

حين يصمت العلماء والمفكرون تتكاثر المحكيات والمتدخلون من غير ذوي الاختصاص وهذه الطينة الجديدة من نجوم المحللين الذين يفتون في كل شيء ولهم وصفات جاهزة حول الشيء ونقيضه فوق ما يقوى عليه العقل السوفسطائي ذاته، هؤلاء المحللون الذين نموا مثل الفطر مع وسائط التواصل الاجتماعي ويملكون جوابا لكل سؤال حتى لو وضعت عليهم أسئلة متخيلة عن أشياء لم تقع أصلا، لقد تحوّطت كثيرا في كتابي من الرؤى التنبؤية التبشرية، ومن الأحكام الإطلاقية ومن اليقينيات في رسم ما سيغدو عليه العالم بعد فيروس كورونا المستجد، فنحن لا زلنا تحت وطأة الجائحة ولا نعلم متى سيوجد اللقاح، ومن تم علينا امتلاك قدر كبير من تنسيب الأحكام، لذلك- وبالتواضع الذي يفرضه مقامي كإعلامي- كنت حذرا من الجزم فيما رسمته من سيناريوهات ظللت ألح على القول بأنها محتملة، لأن الأكيد أن هذا الإمبراطور كوفيد التاسع عشر سيفلق التاريخ مثل حبة لوز، ما قبل وما بعد، لذلك اعتبرت فيروس كورونا من جنس هذا الرأسمال "الجرمينالي" (نسبة إلى رواية إميل زولا)، الذي حولنا كلنا إلى سلع والذي قال عنه ماركس: "يأتي رأس المال إلى العالم بثمن الدم والطين الذي ينضح من كل المسام"، وسلب كل قدراتنا الإنسانية على المقاومة، لقد زلزل الكثير من القناعات الكسولة التي استكنا إليها ونحن غارقون وسط نظام استهلاكي ضرب كل أشكال المناعة النقدية فينا، اقتصاد عولمي متبادل تحتل فيه السلع المادية مركز الصدارة، محلات الرفاه الاقتصادي التي تحولت إلى محرابنا اليومي للتعبد، تسليط آلة جهنمية لتوجيه لاوعينا لاستهلاك حتى الذي ليس ضروريا لبقائنا، إعلانات تستبد بنظام حياتنا ترسخ الاستهلاك كركن أساسي في عاداتنا اليومية حتى حولتنا إلى رهائن بلا حس ولا إدراك، وتحولت بطائقنا الائتمانية إلى ما يشبه صكوك الغفران نشتري بها المتعة، الارتقاء الاجتماعي، السعادة المُشيئة، الموضة وباقي السلع ما يعيد لنا الفردوس المفقود، حتى فقدنا المعنى في أبسط التفاصيل الصغيرة في حياتنا.

لقد أنهى فيروس كورونا المستجد الكثير من الحكايات التي اجتهدت في أن تمسح من عقولنا كل المسار المؤلم للرأسمال، وأن تحول السلع من شرطها الاقتصادي والاجتماعي إلى متخيل لا نملك إلا طاعته، إلاه للعصر طاغي ومتجبر علينا الانصياع لاستهلاك كل ما هو معروض علينا بغبطة الحواريين المتهافتين على الفتات بدافع البركة وجاذبية سحر لا يقاوم ويعجز العقل المغيب عن فك طلاسيمه.

لذلك يبدو لي أن هناك ثلاثة سيناريوهات للعالم كما وصفتها، ويمكن إيجازها في عناوين ثلاثة: الشمس قد تشرق من قلب الشرق الأقصى بزعامة الصين، أو نصبح أمام عالم برأسين: العودة إلى الحرب الباردة عسكريا، الساخنة اقتصاديا، وعودة الدولة الوطنية الراعية أو اختيارات الفردانية القاسية، ثم التحول من الرأسمالية المالية إلى الاستبدادية الرقمية.