الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

مفهوم "المشيخة" بين العيطة الحوزية والمرساوية (5)

مفهوم "المشيخة" بين العيطة الحوزية والمرساوية (5) مجموعة صقر العيطة الشيخ عمر الزايدي

نزولا عند رغبة عشاق الموروث الثقافي الشعبي على مستوى تراث فن الطرب والإيقاع، بتعدد أنماطه العيطية، إرتأينا في " أنفاس بريس" نشر سلسلة من المقالات في هذا الشأن في علاقة مع مفهوم "المشيخة" كموقف تعبيري عن الذات .

إن مجموعة البحث بتنسيق مع الأستاذ عبد العالي بلقايد، تنطلق في بحثها ونبشها من قاعدة أن "العيطة لا تشير إلى الواحد، بل هي متعددة بتعدد صيغ القول والغناء التي تتعدد بتعدد صيغ القول والأداء، التي تتعدد وتتنوع بتنوع أمكنة القول والطرب".

في الحلقة الخامسة من هذه السلسلة نقدم لقراء الموقع مقاربة تيمة "المشيخة" في الثقافة الشعبية عموما و العيطة بشكل خاص، من خلال هذه الورقة حول معاني المشيخة وضوابطها تحت عنوان " مفهوم المشيخة بين العيطة الحوزية والمرساوية"

 

نرفع أكف الضراعة للترحم على روح شيخ العيطة الحوزية سي حسن الدريوكي الذي وافته المنية أواخر سنة 2019، و الذي يعتبر وريث سر المرحوم الشيخ بن حمامة المؤسس الفعلي لـ "مشيخة" المخاليف.

إن رحيل فنان من أسرة فن العيطة، أو التراث الشعبي ترحل معه "مكتبة" و يغيب معه جزء من هذا التراث اللامادي الذي هو وقود الحركة لأي إقلاع إنمائي. في هذا السياق فإننا نتلمس الطريق لكي نتمكن من تأصيل مفهوم "المشيخة" وإبراز معانيه، كمفهوم في الثقافة الشعبية بشكل عام و العيطة بشكل خاص.

من معاني وضوابط "المشيخة" في فن العيطة

ومن معاني المشيخة إتباع طريق، أو سلك نهج، الذي لا ينبغي الإنزياح عنه، فالزيغ عنه خرق للعرف الذي بنيت عليه حياة الجماعة، لأن الثقافة المغربية مبنية على أسس شفوية، وكل أنشطتها مؤسسة على تعاقدات غير مكتوبة، ولكنها ناظمة لحياتهم وموجهة لتصرفاتهم، ومحددة لسلوكهم، وتفاعلهم مع الوجود، فالعرف لا ينظم فقط العلاقات الإجتماعية، بل حتى الفنية.

إن الغناء الحوزي يخضع لترتيب، ويجري وفق حساب، وعيطاته تغنى وفق ترتيب زمني خلال الليلة التي هي ليلة للفرجة والتفاعل مع مناخ وإحالات الغناء. افتتاح فرجة الليلة تبدأ في "المشيخة" الحوزية بعيطة "رجال لبلاد"، كما تفتتح الفرجة في العيطة المرساوية بعيطة "الحداويات"، ذات الأصل الفيلالي، والمطبوعة بحساسية روحية، شأن مفتاح الفرجة الحوزية. والختم يكون بعيطة محددة، وفي الغالب بالنسبة للعيطة الحوزية تكون بعيطة " مول الشعبة" التي هي قفل الدائرة ، والإعلان عن الختم، وانتهاء الفرجة.

"المشيخة" الحوزية تؤدي عيطات معلومة، لا يجوز إضافة حبات إلى عيطاتها، فكل زيادة في متن العيوط هو خروج عن المألوف، والمتعارف عليه.

وقد حدد شيوخ الحوزي عدد عيطاته، التي لا يمكن أن يتسرب إليها الدخيل، كما ميزوها عن "السوسات"، شأن الملحون الذي ميز بين القصيدة و "السرابا". كذلك ميز الحوزي بين العيطة و "السوسا" التي لا ترقى إلى العيطة من حيث البناء وإن كانت تشبهها من حيث الإيقاع والنفس الفني.

"المشيخة" بين العيط الحوزي و المرساوي في زمن "الشفاهي"

باعتبار الثقافة المغربية وخاصة في البدايات هي ثقافة شفوية تتأسس على الأعراف والتقاليد كآليات ناظمة لمناحي الحياة، لعبت "المشيخة" دورا أساسيا في توجيه السلوك، و فعالية الوجود الإجتماعي، فحتى إنتاج أشياء العمران البشري، كانت ضمن هيئات قريبة من "المشيخة"، فالإنسان المغربي في مراحل معينة سواء أكان فلاحا أو صانعا/حرفيا، لابد له من شيخ يوجه سلوكه بكلام شفوي، فلا مكتوب أو مقروء بالكثير من الهيئات إلا في المجالات التي سيصبح فيها الإنسان من أصحاب الشرع أو كاتبا عند المخزن.
العيطة بكافة ألوانها هي فعالية فنية مطبوعة بطابع الشفوية، وإن كانت معروفة بعدد عيوطها، وحطاتها، وعتوبها، وميازنها، فليست مدونة في كتاب يرجع إليها روادها، بل هي محفوظة في الذاكرة. شأن الأذكار وأمداح الزوايا التي كانت تلقن لمريديها شفويا وتمارس بنفس الصيغة، وخاصة في البدايات.

رغم هذا الطابع الشفوي الذي قد يعرض المتون للتغيير فقد دأب شيوخ العيطة على المحافظة على متونها، لأن أداءها من طرف الرواد كان يخضع لسلوك به الكثير من النفحات الروحية ، فلا تبدأ الفرجة إلا وجل الشيوخ قد توضئوا شأن فرسان الخيل.

مقاربة "المشيخة" من خلال المنتوج الفني والاستعراضي
المشيخة الحوزية : تتميز من حيث الآلات بهيمنة الطعريجة، والكمان الذي لا يتحدد في واحد، بل استقر الذوق على وجود آلتين إثنتين على الأقل، وقد يتسع العرض ليتحمل أكثر من ثلاثة، وقد صرح بعض الشيوخ بأن العيطة الحوزية تتحمل عددا لا محدودا من حيث آلات الكمان، وبالأخص في العيوط التي تخضع لحساب مضبوط ، وميزان موسيقي معلوم، فهو إما خماسي أو سباعي، ذا طبيعة مركبة، فالشيوخ العارفين بأسرار العيطة لهم دراية بالإنتقالات، وبالحطات، وبالمد، والطمات ...إلخ، يستطيعون خلق هذا الهرموني.

لكن بـ "البراويل" حسب اعتقاد هؤلاء الشيوخ لا يمكن للعيطة الحوزية أن تتحمل هذا العدد الكثير لآلات الكمان، لأن في اعتقادهم يغيب الحساب في "البراويل"، ولا تخضع لترتيب بالصرامة المفروضة في العيوط، لهذا تقل الضوابط التي يسير وفقها الميزان الموسيقي، بالبراويل.
العيطة المرساوية : في اعتقادنا بأن العيطة المرساوية هي كذلك تتحمل أكثر من كمان، لأنها عيطة مركبة، شأن باقي العيوط المغربية ذات الطبيعة المركبة في ميازينها، وقد كانت التجربة ناجحة فيما يخص العيطة الحصباوية حين تم إستعمال أكثر من آلة وترية.
أما الإستعراض فيبدو صارخا في العيط الحوزي، عكس المرساوي الذي يبرز فيه بشكل هاديء بحس جميل.

لم يكن ميل وهوى العيطة إلا حيث يميل رجال الصلاح والزعماء

سعيا منا لمقاربة تيمة "المشيخة" كشكل من أشكال الثقافة الشعبية بصفة عامة، وممارسة الفن العيطي بشكل خاص، كمعطى شعبي يخترقه منزع الصلاح كسائر فعالية النشاط البشري للجماعة المنظمة بالعرف كبعد شفوي. وهو ما جعل الباحث عبد الله العروي كرائد من رواد الحداثة يسمي هذه الثقافة بثقافة الأم التي لازالت حسب إعتقاده فاعلة في الذات كوجود ثقافي وسياسي، وبتعبيره فإن الغميس لابد أن يطفو ويؤثر على سائر مناحي الوجود، فكل عملية تسعى إلى رمي منتوج ثقافة الأم إلى اللامفكر فيه بتعبير أركون، تجعل الغميس يطفو بين الفينة والأخرى، يؤثر ويفعل ويوجه سائر مناحي الحياة.

فرغم أن الأستاذ عبد الله العروي كان ولازال من المدافعين عن السرديات الكبرى التي تخضع لصرامة العقل، والأفكار الكبرى التي خلقت اللحظات التاريخية العظيمة التي أضاءت عوالم الأخر بالأنوار، وبددت ظلام القرون الوسطى، وبسطت هيمنة العقل، بعكس هذا المنزع ـ يشير في كتابه ديوان السياسة ـ لخاصية هيمنة ثقافة الأم على منزعنا الثقافي . ولو أنه من دعاة الحداثة التي همشت غيرها من فعالية الإنسان خارج دائرة الغرب ، لترجع مرة أخرى ثقافة روما لتنعث ما عداها هي وأثينا بثقافة الهمج والبربر لأنها لا تتماهى مع ما أنتجته أوروبا في سائر مناحي الحياة، سواء في السياسة أو الفن أو غيره.
ومرة أخرى سيشرعن الغرب العنف القوي الذي سيمارسه ضد الشعوب التي ستكون مشمولة بالحملات الإستعمارية الساعية إلى السيطرة على أشياء العمران البشري، والإستحواد على منتوجه المعنوي الذي استعصى عليه تفكيكه وتشويهه لميزته المنتصرة للذات الرافضة للأخر الغاصب للأرض.
فكان الرجال الخارجين من أمكنة الصلاح، والزعامات المحلية، وناس الصنائع الكوكبة الأولى التي واجهت الأخر الغاصب للأرض وكانت العيطة ديوان القول المواجه للآخر، والفن الذي يحشد الهمم لعدم الرضوخ للآخر مهما كانت النتائج ، ولو أن موازين القوى لم تكن متكافئة.
لم يكن ميل وهوى العيطة إلا حيث مال رجال الصلاح والكثير من الزعامات المحلية، فكانت الصوت المعبر عن مطمح هذه الفعالية، بل كانت صوتها القوي والفاعل في الكثير من الأحايين ضمن صانعي الملاحم الشعبية، التي صنعها المغاربة ضد غطرسة الغرب.