الجمعة 19 إبريل 2024
سياسة

حين دعا عبد الهادي بوطالب العرب إلى تغيير العقليات والأساليب

حين دعا عبد الهادي بوطالب العرب إلى تغيير العقليات والأساليب الراحل عبد الهادي بوطالب وقبة الصخرة بالقدس

نستحضر اليوم على ضوء رعاية الرئيس الأمريكي ترامب بالبيت الأبيض في واشنطن حفل توقيع اتفاق تطبيع بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين يوم 15 شتنبر 2020، نستحضر كتابات ومواقف الراحل الأستاذ عبد الهادي بوطالب، حول قضية فلسطين، حيث يمكن اعتبار ما كتبه من مقالات وما دونه من تحاليل، والتي جمع البعض منها في كتاب صدر سنة 1987 تحت عنوان "نظرات في القضية العربية" يمكن اعتبار ذلك بمثابة مراجع يمكن العودة إليها لقراءة بعض التطورات التي أثرت في مسار الصراع العربي الإسرائيلي وساهمت في إضعاف الصف العربي وفي الحالة التي يوجد عليها العالم العربي اليوم.

 

واهتمام الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالقضايا العربية وخاصة، قضية فلسطين، هو اهتمام قديم، يعود من جهة إلى تلك الرحلة التي قادته إلى الشرق العربي بعد تخرجه من جامعة القرويين حيث حل بمصر وسوريا والأردن وبالقدس، واطلع هناك عن كتب على جوهر الصراع بين العرب والصهيونية، حيث كان تساؤله المركزي هناك يدور حول الهزيمة العربية الأولى وحول الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ذلك، وفي مقدمتها دور الاستعمار البريطاني واتفاقية سايس بيكو التي قسمت المنطقة العربية...

 

كما يعود هذا الاهتمام، إلى علاقته بالصحافة ومتابعته للأخبار الدولية حيث كان، رئيس تحرير لجريدة "الرأي العام" وهو الاهتمام الذي تواصل بإدمانه على الكتابة في الصحافة حتى آخر أيام في حياته.

 

وقد تعمق هذا الاهتمام بالوضع العربي وبالقضية الفلسطينية. لدى الراحل منذ أن تم تعيينه سفيرا بسوريا، وتحمله مسؤولية الوساطة في الخلاف بين مصر وسوريا حول مسألة الوحدة آنذاك، كما تعمق أكثر منذ أن تولى مسؤولية وزارة الخارجية ومستشارا ملكيا مكلفا بالعالم العربي الإسلامي، حيث أتيحت له أن يكون فاعلا وشاهدا على عدد من الأحداث والوقائع وعلى عدد من اللقاءات السرية والقمم العربية الإسلامية والاتصالات المباشرة وغير المباشرة بين جلالة الملك الحسن الثاني وعدد من القادة العرب في موضوع فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي.

 

لهذا ونحن نتابع ما حدث في واشنطن وكيف طبعت الإمارات والبحرين علاقتها مع إسرائيل، نلاحظ على ضوء ما كتبه الراحل، بأن "داء العطب قديم"، وبأن لهذه النتائج مقدمات وبأن حكاية عبد الله ابن المقفع في كتابه "كليلة ودمنة" حول، "كيف أكل الثور الأسود، يوم أكل الثور الأبيض"، حكاية تنطبق كل الانطباق حول ما يحدث اليوم، حيث تستغل إسرائيل ضعف العالم العربي وتشتته والخلافات التي تنخر كيانه لتخترق الصف العربي، هكذا، نجد أن ما يحدث كانت له مقدمات، ولا نقول مبررات، حيث نجد هذا فيما انتهت إليه حرب الخليج الأولى والثانية، وقبلها الحرب العراقية الإيرانية، مرورا بما حدث في سوريا واليمن وليبيا، وقوفا عند ما انتهى إليه ما يسمى بالربيع العربي، زيادة على ما يوجد عليه العالم العربي والإسلامي اليوم، من تجاذبات واستقطابات ومحاور... كل هذا، يوضح بأن العالم العربي يوجد في وضعية كارثية، لا يمكن لنا أن نتوقع كيفية الخروج منها في المرحلة الحالية. وبالعودة إلى الأستاذ عبد الهادي بوطالب، يمكن أن نتلمس بعض الأجوبة، حيث كانت له آراء ومواقف منذ ذلك التاريخ، أي منذ نهاية القرن الماضي، حول هذا الوضع ومآلاته، مواقف وآراء حول العجز العربي وكيفية تجاوزه، وفي هذا الإطار يمكن أن نعرض هنا بعض الفقرات التي يختم بها ذلك الكتاب الذي أشرنا إليه "نظرات في القضية العربية"، حيث يقول: فهل هو المأزق؟ لا أريد أن أختم هذا الكتاب على نغمة تشاؤم كما يقول الأستاذ عبد الهادي بوطالب، كما لا أغض طرفي عن الحقائق التي تحدثت عنها في هذا الكتاب وهي لا تبعث على التفاؤل. إن القضية العربية –ما في ذلك شك- أصبحت يتيمة ضائعة في مأدبة اللئام.

 

لست من المؤمنين إلى درجة التصديق بقواعد علم المستقبل، فهو كجميع العلوم الإنسانية يعتمد معايير تقوم على متغيرات من الصعب ضبطها، بيد أني أومن بالآية الكريمة القائلة "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

 

وكل شيء يدعو العرب إلى القيام بتغيير شامل في عقلياتهم وتربيتهم وسلوكهم ومواقفهم وأساليب عملهم وذلك هو الطريق السالك إلى تغيير الوضع العربي ودفع القضية العربية في مسار جديد.

 

وقبل كل شيء تحتم علينا التجربة التي مرت بها القضية منذ ما يقرب الآن من نصف قرن، بما تحمله في طياتها من أبعاد وتطورات سبق الحديث عنها أن نترجم إلى حيز التطبيق الواقعي تصورا عربيا طالما رددناه في شعار أن "المعركة معركة مصيرية حضارية" دون أن نخطط للمعركة انطلاقا من هذا البعد الصحيح.

 

وحرف الألف في هذا التخطيط أن معركة من هذا النوع تقتضي أن لا يُقفَز على مراحلها الأساسية للوصول بها إلى غاياتها بدون إعداد، فهذه القفزة عملية انتحارية.

 

في معركة حضارية مصيرية يصبح الرهان هو تكافؤ الفرص والحظوظ بين المتصارعين، والعرب يصارعون قوى تقدمت في الميدان الحضاري بما جعل منها مقدمة القافلة. وعلى ذلك فالبداية الأولى هي تغيير التكوين العربي واعتماد آخر مناهج التربية العصرية لتكوين الإنسان العربي الذي يعيش عصره ويُقْدِم على مواجهة خصومه في الصراع بالوسائل المتكافئة المتاحة.

 

إننا لم نكن ضمن القافلة العالمية لا في عهد ثورة البخار، ولا في عهد الثورة الصناعية. وفاتنا القطار لأننا لم نملك قدرة التسلق لأخذ مكاننا فيه وهو سائر بسرعة، خاصة وقد كنا معوقين تحت نير الاستعمار الغربي.

 

واليوم يدخل العالم عهد ثورة المعلوميات وغزو الفضاء، وما نزال ونحن متحررون (سياسيا على الأقل) لم نأخذ مكاننا في قطار هذه الثورة، والامارات تتضافر على أن ثورات مذهلة أخرى قادمة وهي على الأبواب ولما نتحسس مفعول الطوفان العلمي القادم.

 

من هذا يصبح الفارق بين العرب وإسرائيل ليس الحدود الجغرافية بل الحدود الزمنية التي تباعد بين جيل إسرائيلي تربى في أحضان العلم والتكنولوجيا وجيل عربي لم يهيأ لخوض معركة متكافئة، وهذه مسافة خلْف يقتضي منا اجتيازها أن نستحث فيها الخطى.

 

بمقتضى ما سلف يظهر أن الصراع يتطلب نَفَسا طويلا وتخطيطا بعيد المدى محدد المراحل. وفي هذا فإن الغلبة ستكون للعرب لا محالة لأن إمكاناتهم البشرية وطاقات ثرواتهم تسمحان لهم بالمنافسة والمغالبة.

 

ولكن يبرز هنا سؤال: وماذا على العرب أن يفعلوا إلى أن تتوفر لهم شروط العراك المتكافئ؟ ليس من الصعب الجواب على هذا السؤال: إن على العرب أن يظلوا مادين يدهم للسلام مع إسرائيل، وفي ذات الوقت مستبعدين الاستسلام لشروطها كما فعلوا بعد اتفاقهم على خطة فاس، وهي خطة ما تزال صالحة بشرط أن لا ينفض العربُ من حولها. وخطة فاس أعطت إسرائيل ضمنيا تنازلا عربيا بالاعتراف لها بحق الوجود واستمراره على حدود آمنة، وهذا تنازل عربي كبير. وإلى أن تنضج إسرائيل إلى قبول فرصة السلام المتاحة لا سبيل للعرب إلا اتفاقهم على رفض المساومة التي تحول السلام إلى استسلام. وإذا كانت أوروبا عرفت حرب المائة سنة فلا ضير أن تعيش المنطقة العربية حالة الحرب نصف قرن آخر. وفي حالة صمودهم فلن يكونوا الخاسرين، لأن إسرائيل لا تقوى على مد احتلالها إلى أراضيهم، ما دامت لا تقوى طاقتها البشرية المحدودة حتى على استيعاب الأراضي العربية الخاضعة الآن لاحتلالها كما يعترف بذلك شيمون بيريز نفسه، ولأن قوام طاقة العرب البشرية مائة وستون مليونا تتزايد بمرور السنين داخل الأراضي العربية المحتلة وخارجها، ولأن تجربة غزو إسرائيل للبنان لقنتها درسا رادعا.

 

وبين هذا وذاك فكلما سنحت للعرب فرصة لاسترداد حقهم السليب وجب عليهم اهتبالها بأسلوب أو بآخر، فالأسلوب المستعمل في خدمة تحرير الأرض لا يهم، ولا يشوش اختلاف الأسلوب على الرؤية إذا اتضح الهدف.

 

وللضغط على إسرائيل في وجهة السلام يمكن للقيادات العربية أن تستثمر تحالفاتها المختلفة التي تقتضي خدمة القضية العربية استثمارها في حملة الضغط، مع العلم أنها ليست مفتاح الحل، فإذا لم يسند العرب أنفسهم فلن يجدوا لهم سندا.

 

وبصرف النظر عن تطورات مستقبل القضية، فإن الحد الأدنى للحفاظ عليها ولو في وضعها الحاضر هو تعايش النظم العربية واستدبارها عهد التآمر لإطاحة بعضها بالبعض أو وضع العصي في دواليب كل واحد منها، وإنهاء الحروب الهامشية أو الثنائية كحرب الصحراء في المغرب العربي وأزمات الحدود القائمة بين بعض الجيران العرب.

 

ولابد أن تلتقي النظم العربية حكومات وشعوبا حول قواسم مشتركة، وأن يقوم التحام بين القواعد والقيادات. ولا تتحقق للقيادات المشروعية إلا إذا أشركت القاعدة في مسؤوليات الحكم، ومتعتها بحقوق الإنسان والمواطن، وأمنت لها حقوقها الاجتماعية، وحررتها من المخاوف الذاتية، وأطلقت لها الكلمة من عقالها، وحررت الضمائر من استبعاد النظم، فهذه الأسس هي التي ستحول القواعد العربية إلى طاقات قادرة على النضال والصمود.

 

وينبغي أن تسير التحررية السياسية مع التحررية الاقتصادية في تواز متناغم، وأن تكون التنمية شاملة ميادين الاقتصاد والفكر في آن واحد، لتتقارب الفجوات بين الطبقات الاجتماعية. فالدول العربية التي تقيم داخلها تحديثا عصريا ماديا لا يواكبه تحديث عصري في بنياتها الاجتماعية والفكرية تقع لا محالة في ردة فعل قواعدها التي لا تتعايش مع هذا التناقض. وهذا هو التخطيط الصحيح، وهو ينطبق على التخطيطات القومية داخل كل بلاد عربية على حدة كما ينبغي أن يطبق على صعيد العالم العربي كله.

 

إن كل كتلة غنية في جزء من العالم العربي محاطةٍ بحزام من الفقر خارجها ستظل مهددة في أمنها الاقتصادي وحتى السياسي ما لم تحقق التكافل بالإغداق من خيراتها على ما حولها في العالم العربي في عملية تحصين حقيقي لأمنها الداخلي.

 

والعرب مدعوون إلى مواصلة رسالة إشعاعهم التاريخية خارج المنطقة العربية، وهم حضاريا مطالَبون بتوثيق روابطهم بالعالم الإسلامي الذي تلقف الحضارة العربية الفكرية عن طريق الإسلام وأغناها بخصوصياته وعطاءاته. ولا غنى للعرب القادرين عن مواصلة مساعدة أجزاء العالم الإسلامي المفتقرة إلى الدعم، فالمعركة الحضارية تتطلب حضور العرب في إفريقيا وآسيا، إذ كلما غاب العرب عن ساحة رشحت إسرائيل نفسها لسد الفراغ العربي. ومهما يكن الدعم المادي الذي يبذله العرب في هذا السبيل فإن مردوديته المعنوية على دعم القضية العربية تفوق حجم المساعدة المادية العربية.

 

والمطلوب تعبئة عربية شاملة لا تستهدف عدوانا أو تحقيق غايات عنصرية، أو تعتمد حلا عسكريا ومواجهة دامية، بل تعبئة تتضافر فيها الإرادات وتتناسق الجهود لإعادة صياغة مجتمعاتنا العربية بما يحقق تصحيح مسار القضية العربية التي هي قضية حق وعدل.

 

هكذا إذن يقدم الأستاذ عبد الهادي بوطالب جملة من الاقتراحات العملية، لبناء نظام عربي جديد، بتصور جديد، نظام تتكامل فيه كل الإمكانيات العربية المتوفرة، أفقيا وعموديا، وبتضافر كل الجهود الرسمية والشعبية في إطار من الحرية والديمقراطية التي تجعل من الشعوب صمام أمان لمواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية، حيث ليس هناك خوف متبادل بين الحكام والشعوب، بل هناك تفاعل وتفاهم، لا يستدعي، كما هو حال البعض اليوم، اللجوء إلى الغير للاحتماء به، وهو على كل حال سيظل احتماءً ملغوما قد يهدد في مرحلة من المراحل السيادة العربية.

 

- عن مؤسسة عبد الهادي بوطالب