الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

عمر بن أعمارة: واحة فڭيڭ.. أو في بهاءوكبرياء المكان

عمر بن أعمارة: واحة فڭيڭ.. أو في بهاءوكبرياء المكان عمر بن أعمارة

هكذا حال المحبّ والمحبوب.

كل الطرق تؤدي إلى روما، ولا طريق واحدة تؤدي إلى واحة فڭيڭ غير طريق القلب.هناك خيط ناظم رفيع يجمع بين البهاء والبساطة والكبرياء،هذا المثلث متساوي الأضلاع لا يستقم في غياب إحدى أضلعه الثلاث، فبهاء المكان في بساطته وبساطته في كبريائه وكبرياؤه هو حين يتمنّع ويصير غير متاح لأي كان حيث يلبس هبته ويصبح عصيا عن البوح والإفصاح.  لواحة فڭيڭ عناوين ودروب، لكن أنّى أن يتأتى لأي كان ولوجها ؟ ففي بساطتها يكمن كبرياءها وفي عزلتها ونائيتها يحضر المكان متمنّعا وعصيّا عن أي إمكانات التفاوض، إذ قد تسعى بجميع الطرق المتاحة لك لمطاوعته ومراوضته لكن لن يستجيب لعروضك ما لم تعمل على تفكيك شفرات رموزه لاستجلاء الغموض القابع تحت جلد بساطته، فالمكان مدجج بكل ما يوحي بالغموض والتكتم وكل الأسرار فيه تلبس رداء التمنع.

لقد إلتقطت الواحة من الصحراء سفورها وعُريها وحولت الجبال الشامخة إلى أدرع وأحجبة فأثمرت الحياة، هكذا صارت لا تفصح عن شيء بل تخفي كل ما يبدو متجلّيا. في الواحة بنايات خجولة لا تكشف سوى عن كبريائها: نوافذ مفتوحة على فناءات بيوتها، أزقة ودروب ضيقة مسقوفة تغمرها الظلمة ولو في واضحة النهار حيث الشمس الساطعة تتوسط السماء، وبساتين محيطة بأسوار تحجب الرؤى.

للواحة نبضات روحية وللمكان هناك تجاعيد فإن أجدت محاورتها أفصحت لك عن أسرارها، قد تغوص في ثناياها باحثا عن الخيوط والتلافيف الدقيقة الرابطة بين البساطة والكبرياء فيعترضك هناك جمال تلقائي مفرط وقد تصادفه أينما وليت نظرك.الزمن الواحي منفرد، رتابة مفرطة وسكون مترامي الأطراف، قد يتمدد الزمان هناك حد الضجر ويمنحك يومين أو ثلاثة في يوم واحد، ولا تَناهي المكان هناك في تَناهيه، فالمكان هناك ملاذ آمن بعيدا عن ضجيج وصخب العالم، بل دعوة لمعانقة النفس وقد تختلي بنفسك في خلوات متعددة ومتكررة مما يجعلك تحس بأنك تنفرد بالكون وهو أيضا ينفرد بك، فالواحة تجعلك تتدرب على كل أشكال التضرع والمناجاة والتأمل مما يضفي عليها جاذبية خاصة.

في الواحة، المكان ليس مجرد جغرافيا أو مساحات للعبور أو حتى للسكن، بل هو مقام والمقام دعوة للحضور المكتمل والزمان هناك ليس مجرد وقت بل ذاكرة تنبض بالحياة.الواحة هي تلك التركيبة الطبيعية الخالصة بين السهل الممتنع والبسيط الممتع حيثالبهاء يتدفق من كل مفاصلهاوعليهاتدلّى رداء الصمت والخجل لفّها، والحياءسبغ أماكنها بالهدوء والسكينة، والنسيان المخاتل يتسلل إلى حيث تنبض الحياة قصد وأدها.هناك في الواحة كل شيء يتنازل عن غموضه ويلبس وضوحا مبهرا والبساطة هي نداء إلى الإنتماء للروح و لبواطن الذات. هناك من اعتبر الماء روحا للواحة وأنا أزعم غير ذلك فللواحة روحا لا ينتبه لها أي كان، إنه "الصمت"ففي صمتها الخاص يكمن جوهر ووجودها. هناك الكون وهناك الصمت وللصمت أسرار وبهاء لن يستوعبها ولن يتذوقها إلا من كان خارج كل الصخابات حتى التي تكمن بدواخله.

كلما طال الأمد ازداد تشوقي وحنيني للمكان، فما سرّ هذا الشيء الذي يوقظ في هذا الكم من المشاعر والأحاسيس ويجعل كل ما مضى من زمان الواحة يطفو على ذاكرتي ؟ لقد صرت كما لو أنني كلب بافلوف، فإن كان هو يطلق لعابه عند سماعه الجرس إيذانا بوقت الأكل، فأنا تلبسني كل أحاسيس الحنين ويكتسحني الشوق الجارف إلى واحتي كلما اقترب فصل الصيف، هكذا يتدفق من روحي ويطفو كل ما هو من صُلْبِ الواحة إيذانا بقرب موسم الهجرة.

أتوجه إلى واحتي كي أعيد تشكيل نفسي العميقة ورؤية العالم على نحو مغاير، أقصد واحتي كي أبتعد عن كل ما يبعدني عن نفسي التي ما فتئت أبحث عنها في كل مكان دون جدوى، أروح لواحتي لأبحث عن آثار إنسانيتي الأولى فأنا ابن المكان حيث لازالت نُحوتاته بادية على روحي وحتى على شكلي، أزور واحتي لأروي عطشا حلّ بي سكنني ولازمني منذ أن غادرت المكان، هذا المكان الذي يشدني إليه شدّا وتتملكني أسراره المتدفقة، هذه الواحة التي استوطنتني بعد أن سكنتها وهواها سحرني ثم أسرني حيث يأخذني من نفسي إلى نفسي. هل طعم الطفولة والمكان حيث ترعرعت دائما بهذه اللّذّة ؟ للمكان هناك وقع خاص، فهو مستودع ذكرياتوساحة "تاشْرَافْتْ" ليست مجرد فضاء للقاءات بالأحبة والأصدقاء أو للعبور بل مقام والمقام سلطة. فما أقسى أن تفارق المكان الذي ولد فيك يوم ولدت فيه !

كلما نزلت بالواحة أتسكع وأهيم في دروب بناياتها وأزقة بساتينها وأقتحم كل الأمكنة، أترصد لحظات وأتصيد فرص لعلني أستعيد ولو القليل من دقائق أحداث الماضي والذكريات ولعل هذه الأمكنة تجود عليّ برحيق مما مضى أو تستفزّ الذاكرة وتحثها على الإشتغال والتذكّر، وجاهدا أسعى لأن أقبض على نتوفات من ماض جميل.هناك في الواحة المكانيُلبسك البساطة ويضفي عليك البهاء، هناك المقام والمقام إنتماء لا ادّعاء، هناك تجلس حيث يليق بالمكان ويليق بك. إن للطبيعة هناك جلال،هناك أنفاسا وروائح فما أزكى نسيم الصباح ورائحة الطين حيث التراب الطاهر الحر المبلل بماء المطر خصوصا أيام الصيف إذ يمنحك جرعات منعشة، وأمكنة تفوح منها رائحة الحطب المحترق مع جمالية يضفيها دخانها على بعض السقوف التي سبغها بالسواد. كلما حللت بالواحة ووطئت قدماي تربتها إلاّ وشعرت بطفل يولد بدواخلي إذ عقارب الزمان تعود بي إلى لحظة الصفر حيث البداية. للمكان جلال وللصمت لذة وللسكينة رعشة. أمشي في دروب وأزقة الواحة وبين الأحياء السكنية وزقاق البساتين، أقلب بصري في كل جزء من سمائها وترابها ومائها وجدرانها وسقوفها ونخيلها. عندما ألج المنزل حيث ولدت وترعرعت أطوف كل غرفه المتعددة كما بهوه متمعنا النظر في كل جزء منها كما لو أنني أراها لأول مرة أو كأنما أودعها مرة للأبد،وبعدها أجلس عند زاوية ما وأتيه وأنا أتأمل أرضية البهو أو أحذق في سمائه. وفي لحظات عديدة أقفل جميع أبوابي ونوافذي وأحكم إغلاقها حتى لا يتسرب ويتسلل إليّ ضجيج العالم، هكذا أغرق في لذة الصمت الممزوج بالمكان، أتأمل الفراغات المحيطة بي والتي تملأ كل الأمكنة، أنصت إلى نبضات قلبي ونبضات قلب الكون.

واحتي تستضيفني لأحتسي كأس صمت مخضّب بطمأنينة وسكينة وبتأمل، هكذا تهمس في جوارحي فأصمت وتلهمني فأصمت فأفتتن بها وأخشع فأهمس في روحها فيتملّكها الشغف للمزيد من همساتي، فأنتشي وبعد ذلك أحتار، هكذا تمتزج الحيرة بالدهشة وتتبلل بمشاعر الاطمئنان والسكينة فيتدفق الحب والشغف بالحياة ويصبح كلامي ممزوجا بالصمت ومبللا بالعشق فيولد الهمس والهمس سرّ بين المحب والمحبوب والسرّ إيحاء غير قابل للإفشاء. هكذا حال المحبّ والمحبوب.