الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

سعيد بعزيز: النبوغ المغربي والإهمال الحكومي

سعيد بعزيز: النبوغ المغربي والإهمال الحكومي سعيد بعزيز

انتشرت انتقادات واسعة للحكومة المغربية، في الفضاء الأزرق، بسبب غياب سياسة وطنية واضحة لترسيخ آليات البحث العلمي وضمان نجاعته على المستويين التنموي والمجتمعي، الأمر الذي ساهم في نزيف الكفاءات والخبرات الوطنية من خلال هجرة عشرات الأدمغة خارج التراب الوطني.

 

جاء ذلك على خلفية تعيين الرئيس الأمريكي يوم الجمعة 15 ماي 2020، للعالم المغربي منصف السلاوي كبير مستشاري مشروع عملية "Warp Speed" لتطوير وتقديم 300 مليون جرعة من لقاح لمرض فيروس كورونا ـ كوفيد 19 بحلول يناير 2021، وتقديمه بصفته خبيرا أمريكيا في الصناعات الدوائية.

 

ما تداوله رواد الفضاء الأزرق، في إطار سرد معاناته مع الإدارة المغربية، بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في علم الأحياء الجزيئي والمناعة، وعودته إلى أرض الوطن، رغبة منه في إلقاء محاضرات بكليتي الطب، في كل من الرباط والدار البيضاء، والتعامل اللامسؤول للإدارة معه، يحتمل الصواب والخطأ، لأنه ليس كل ما يقال صحيحا، لكن يبقى هذا النوع من السلوك من أبرز مميزات الإدارة المغربية، بسبب انعدام الإرادة لدى الحكومة من أجل تنزيل إصلاحات قوية تروم تأهيل وحكامة المنظومة الإدارية ومحاربة الفساد.

 

وهذا ليس بجديد، فقد جاء على لسان جلالة الملك في خطابه يوم الجمعة 14 أكتوبر 2016 بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة، "إن الصعوبات التي تواجه المواطن في علاقته بالإدارة كثيرة ومتعددة، تبتدئ من الاستقبال، مرورا بالتواصل، إلى معالجة الملفات والوثائق؛ بحيث أصبحت ترتبط في ذهنه بمسار المحارب... إن إصلاح الإدارة يتطلب تغيير السلوكات والعقليات، وجودة التشريعات، من أجل مرفق إداري عمومي فعال، في خدمة المواطن".

 

فهذا النوع من سلوك الإدارة، والإكراهات وهيمنة الارتجالية في التعاطي مع قضايا البحث العلمي والإبداع والابتكار، هي التي جعلت البلدان الأكثر تقدما تستفيد من خبرات وكفاءات الدول السائرة في طريق النمو، الفارين من السياسات الفاشلة، المتبعة في بلدانهم والتي لا ترقى إلى مستوى الاستجابة لطموحاتهم.

 

فالنجاعة الإدارية، كما قال جلالة الملك في خطابه السالف الذكر، معيار لتقدم الأمم، وما دامت علاقة الإدارة بالمواطن لم تتحسن، فإن تصنيف المغرب في هذا الميدان، سيبقى ضمن دول العالم الثالث، إن لم أقل الرابع أو الخامس.

 

إن انعدام التحفيز على الاجتهاد الفكري والإبداع والابتكار والبحث العلمي، وضعف بنياته، وتعدد المراكز البحثية الوطنية، وعدم وضوح رؤيتها المستقبلية، والاختلالات الناجمة عن كون مؤسسات التعليم العالي تمتاز بالتشتت، ووصاية 18 قطاعا حكوميا عليها، واقتصارها على تلقين معرفة مهنية صرفة لا تحفز على البحث العلمي، وغيرها من الإكراهات التي ساهمت في عدم إرساء منظومة متميزة للتعليم العالي، وجعلت الكفاءات تعانق الهجرة خارج التراب الوطني.

 

ليس هذا فقط، بل حتى الوقوف على أجرته السنوية، وهو يعمل في شركة عملاقة، مسؤولا عن قسم البحوث والتطوير، حسب ما تداولته بعض الجرائد الإلكترونية، بلغت ثلاثة ملايين دولار سنويا، أي حوالي ثلاثة ملايير سنتيم مغربي، تندرج ضمن الامتيازات الوظيفية والاجتماعية، والتي تعتبر أهم العوامل التحفيزية والمشجعة على الاجتهاد الفكري والابتكار والبحث العلمي.

 

وفي هذا السياق، أستحضر مرسوم رقم 2.15.770 الصادر في 09 غشت 2016 بتحديد شروط وكيفيات التشغيل بموجب عقود بالإدارات العمومية، الذي سمح بالتعاقد مع الخبراء لإنجاز مشاريع أو دراسات أو تقديم استشارات أو خبرات أو القيام بمهام محددة، والذي يهدف أساسا إلى الاستثمار في الكفاءات الوطنية، عبر عقود محددة المدة من أجل أداء مهام بعينها، حيث لا تخضع الأجور التي سيتلقاها هؤلاء الخبراء لنظام الأجور المعمول به في الوظيفة العمومية، بل تصبح مماثلة لتلك التي يمكن أن يوفرها القطاع الخاص، وقد تتضمن تحفيزات إضافية من أجل البقاء ببلاده، لكن لسوء الحظ، الحكومة لم تتجه نحو الاستفادة من هذا المرسوم في الشق المتعلق بتشجيع وتحفيز الكفاءات المغربية حتى لا ترفرف خارج أرض الوطن، بل توجهت نحو إرساء منظومة وظيفية هشة عبر استغلاله في التعاقد مع أطر إدارية وتكريس الهشاشة وضرب الاستقرار النفسي والاجتماعي لفئات واسعة من الشغيلة المغربية.

 

إن الأزمة الحرجة التي تمر منها البلاد، كشفت عن فشل السياسات العمومية المعتمدة ببلادنا، وانعدام مقاربة استباقية تستوعب حاجيات المجتمع الحقيقية من المعرفة والتكوين والإبداع والابتكار، فقد آن الأوان لأخذ العبرة من دروس هذه اللحظة التاريخية الصعبة، من أجل الرفع من المراكز الوطنية البحثية وتنسيق أعمالها، وتفعيل مهام الوكالة الوطنية لتقييم وضمان جودة التعليم العالي والبحث العلمي، مع إيلاء عناية كبرى للبحث العلمي، كما قال منصف السلاوي، حيث إن الميزانيات التي تقدم للعلماء يجب أن تسمى بالاستثمار لأنها تبشر بعائد ملموس، وتتكلل بتطوير أدوية ذات نفع عظيم.

 

فحتى قانون الإطار رقم 51.17 يتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، جعل اعتماد نموذج بيداغوجي موجه نحو الذكاء يطور الحس النقدي وينمي الانفتاح والابتكار ويربي على المواطنة والقيم الكونية، أحد رافعات هذه المنظومة، ومن بين أهدافها تزويد المجتمع بالكفاءات والنخب من العلماء والمفكرين والمثقفين، والتشجيع على قيم النبوغ والتميز والابتكار وإتاحة الفرصة أمامهم للإبداع والابتكار، واعتماد مستجدات ميادين العلوم والتكنولوجيات والاتصال، في سياق تنسيق وانسجام مع الخيارات المجتمعية الكبرى.

 

فهل يا ترى، ستعمل الحكومة على التقيد بهذه المقتضيات القانونية، وتنزيلها تنزيلا سليما، أم سيكون مصيرها هو نفسه مصير التزاماتها في البرامج الحكومية المتعاقبة.

 

من جديد، مغرب آخر ممكن، بتظافر الجهود وفتح المجال أمام الاجتهاد الفكري والابتكار والبحث العلمي والتحفيز عليه.