الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

أحمد الرياضي :الحجر الصحي.. الكمون أو الفترة الصامتة

أحمد الرياضي :الحجر الصحي.. الكمون أو الفترة الصامتة أحمد الرياضي
إن البحث في سيكولوجية الأوبئة - عبر التاريخ والرواية - داخل المجتمعات الإنسانية التي تعرضت لأوبئة مفاجئة ، يجعل الباحث أمام العديد من الأسئلة الوجودية تقترن بالموت والحياة ، بالغموض والمجهول في شأن التأثيرات النفسية الاجتماعية على نفسية الأفراد،تلك التي ستظل كخبرة قاسية ومكوّنا أساسيّا لتاريخ الفرد ، ووخزا للضمير الجمعي للمجتمعات ، فهي شبيهة إلى حد ما بخبرة الحروب، حيث ستشهد هذه المجتمعات تحولات جذرية في نمط حياتها اليومية، بعدما تنتهي التجربة من بناء دلالات لقيم وأفكار وأنماط مختلفة للحياة الإنسانية. حيث ستُقترن بعض الأنماط السلوكية على مستوى الفرد والجماعة بفترات الأوبئة، وقد تستمر لمدة طويلة.
إن الأوبئة تضع الفرد والمجتمعات أمام البحث في المجهول- بدل البحث في سؤال اليقين - في ظل هذا الهجوم الكاسح لكورونا ،إنه الشك في كل شيئ ، في الذات في الآخر،في ظل الشائعات التي تتناسل كل لحظة تحت رحمة الحجر الصحي.
في علم النفس، في التاريخ، كما في الرواية، أحداث تحتاج إلى تفكيك، وإلى إعادة القراءة،قراءة الرموز والدلالات بدء من الاستهلال، التذكير، فالارتباط .
تلك عناوين البحث في أسئلة الصمت التي تشتغل في مرحلة الكمون لدى الفرد والمجتمع على المستوى الكوني في زمن كورونا.
قبل مدة وجيزة لا أحد منا كان منشغلا بالبحث في مفهوم الحجر الصحي ولا بحالة الطوارئ الصحية، ولا حتى بمتابعة القنوات الرسمية، مثلنا كمثل طفل يعيش منشغلا بألعاب الطفولة.
اليوم عدنا إلى متابعة الأرقام بحثا عن فسحة أمل تعيدنا إلى الذات ، بعيدا عن صخب اليومي وملاهي الحياة. وكأن الأمر فيه نوع من العزوف نحو الآخر ، كل فرد في عالمه الفردي/ حيزه الشخصي ، بعيدا عن فقاعات الآخرين و سيرورة الحياة تلك التي تنتج أسئلة الخطاب والمعنى .
ماذا حصل ؟ هل الأمر طبيعيى ؟ فترة من فترات التشكل والبناء لن تمر بدون انكسارات ، فيها السكون و قراءات تمتد إلى ما وراء الإنسان.
في التحليل النفسي كتبت مؤلفات وأبحاث ودراسات" شاركو وبيير جانيت وفرويد... "حول مراحل النمو النفسي للفرد، توقفت كثيرا عند كل مرحلة بالتفاصيل المملة ، إلا أنها خفضت التركيز على مرحلة هي الأخرى هامة في التنطيم النفسي للفرد ، وهي مرحلة الكمون. لماذا وكيف تم الأمر ؟
أسئلة طرحت من طرف تخصصات أخرى في علم النفس ترى أن هذه المرحلة هي التي تحتاج إلى الدراسة والتحليل.
ترى ما علاقة الحجر الصحي بفترة الكمون أو بالفترة الصامتة، بالرواية، بالتاريخ، وبأشياء أخرى ؟
إن مرحلة الكمون ترتهن بمدى التوظيف النفسي في سيرورات النمو من فرد الى آخر ، علما أن مدتها تختلف باختلاف الأفراد، وهي ذات ترتيب حرج يقترب من مرحلة المراهقة.
اليوم نحن نعود إلى العلاقة مع الذات بعدما كنا في علاقة بالآخر ، هذه العودة المعكوسة تطرح أسئلة الكمون وليس النكوص، تلك التي تبحث في الانتقال من العلاقة مع الذات إلى العلاقة مع الآخر.
إننا حين نبحث في عمق ودلالات مرحلة الكمون، فإن البحث فيها يفيد: بأنها ترتبط بفترة البحث عن الذات من خلال وجود الآخر ، فترة ممارسة الهوايات وتشكيل الصداقات تأسيسا لمراهقة توحي بالتمرد عن الذات .
ترى ماذا حدث ؟ كيف حدث ؟ لماذا حدث؟ سناريوهات مرعبة ، مشاهد مؤلمة هو الموت وحده يرسم تفاصيل الصورة .
في تسعينيات القرن الماضي، كان العدوان كيميائيا، حينها تذكرت يوميات الحزن العادي للشاعر والكاتب الكبير محمود درويش، حين يقول : ..ماذا فعلت بنا الأرض؟
قتلت جدي من القهر والانتظار، وشيبت أبي من الكدح والبؤس، وأخذتني إلى الوعي المبكر بالظلم.
بدء من المسافات الطويلة في عالم بلا خرائط ، وجدت نفسي في أرض السواد ، بحثا عن قصة حب مجوسية وسط الأشجار واغيتال مرزوق في مدن الملح ، وصولا إلى النهايات من أجل رجال في الشمس ، تكون هذا الوعي المبكر بالحلم : كأنه العمى.
الوعي المبكر بالظلم يتولد عنه الوعي المبكر بالحلم، بالاختناق.
في ذلك الآن سكنت غيوم قادفات الصواريخ سماء السواد ، فتحول كل شيء إلى رماد ،ظل الحلم : أن ينكسر هذا الجلاد ، حلم كان مستحيلا ، ولو أن الحلم لا يؤمن بالمستحيل .
بعد سنوات، يأتي الموت القادم من الشرق الآخر/ الصين، لينقذ الأرض والكواكب من عبث الكبار قبل الصغار، وكأنه ينتصر للبيئة و المناخ. ويفتك بكل جسد، من أجل توزيع جديد يحقق حلم كل من تملّكه إحساس بالجدوى من الوجود في ظل الاختناق.
كورونا الدرس الذي يفسر عملية الاختناق ، حيث تجد الذات نفسها أمام أنابيب الأوكسجين في مصحات ترتدي البياض ،من أجل مواجهة الجحيم.
بين المسافات الطويلة ورجال في الشمس تضيع صرخات الباحثين عن أوكسجين الحياة ، بين منيف وغسان سؤال الهوية من أجل وجود يرتدي ثوب الإنعتاق من الإختناق. فهل كان صدى دق الجدران وتفاصيل السواد مسموعا في رواية العمى؟
في التاريخ الدروس التي لا تنفع لا قيمة لتحضيرها على شموع الليل، كل منا يكافح من أجل التاريخ، يتذكر الجدران، فيدق أبواب الكهف للخروج إلى الأشعة والضوء، أشعة الفجر الأولى على إيقاع العزيمة التي أيقظت بعضا منا من أحلامه المؤجلة في غمرة الموت وجحيم العاصفة.
بين الأمس واليوم فرق البياض تصارع مسافات ،تركب السريع السيار من أجل محاصرة فيروس، كأنه العمى في رواية جوزيه ساراماغو للكاتب البرتغالي ، تلك الرواية التي يتنبأ فيها بظهور مرض غامض أسماه "العمى الأبيض" يصيب إحدى المدن وينتشر فيها كالنار، كل السيناريوهات تُجسد بشكل درامي تخييلي، كأنه وباء يختلي بالمدينة ، حتى ضاق الكل بالحجر ، وحدهم الحراس في الواجهة ، لكن حين بلغ الاختناق ، صاح الحارس مخاطبا أحد المخالفين :"توقف وإلا سنطلق النار ". من أجل الحياة.
مسافات التأمين النفسي التي تحاول تجسيد الانفعال الهادئ على مستوى التواصل الاجتماعي في العلاقات الاجتماعية في ظل الحجر الصحي، تطرح سؤال البحث عن المعنى من وجود الإنسان والطبيعة في عاصفة الجنون.
داخل الجدران وحده الحيز الشخصي يرسم حدود التواصل بين الأفراد، كأنه الصمت قبل وشم المنطلقات على صفحات الذاكرة، لتحديد خريطة الأفكار والانفعالات التي تعكس حالتهم الراهنة على المنصات الإلكترونية.
غدا تتنفس الجدران ، نغادر الحُجر، وفي طريقنا تحضر كل الممنوعات ، تلك التي لم تأخذ حيزا كبير في مرحلة الكمون / الحجر ، بعدها نلج المرحلة الأخيرة التي أشعلت النار في كتابات الساكنين في الضفة الأخرى على مسكن سيجموند فرويد،بحثا عن متنفس تتجسد فيه الرغبات الممنوعة.
في الكمون تشتغل الذات وكأنها تستعد للمواجهة ، في الحجر الصحي تولّدت أسئلة الصمت في مآلات المجتمع الكوني بعد كورونا ، مما يطرح سؤال البحث في تفاصيل الزعامة والرقائق الإلكترونية حول رقمنة الهوية ؟.
تلك تفاصيل خريطة الوعي المبكر بالحلم الذي يرتطم بالوعي المبكر بالمأساة، تلك الخريطة التي وشمتها كورونا ، مشاهد توخز نفس كل طفل صغير اهتزت ثقته بلعبه الصغيرة . وحدها /هي الأرض تمحي وجع السؤال لكي تنير شوارع الحياة، تخفف اضطرابات مابعد الصدمة النفسية ، ترسم استراتيجيات المواجهة من أجل البناء النفسي الجسدي الذي أدهسته كورونا، في وجه طفل يصطدم بواقع لا يمتلك آليات التعبير عن همجية المعيش والعنف الذي يستبد به هذا الفيروس . إذ لا يستطيع التعبير عن انفعالاته على المستوى اللفظي مثل الكبار ، فقط يعبّر بلغة أخرى هي لغة الحركة والتوتر، فيصبح ضحية الخوف الشديدو الميل إلى العنف، وتترسخ كورونا كخبرة مؤلمة سابقة .
سنغادر الجدران لنحتفي بالوطن الذي وشم مسيرة البقاء فينا. دون أن ننسى في لحظات الألم صوت موسيقى هوية الأرض. حتى نتفادى الأحداث الصادمة التي قد تستمر لسنوات من خلال الصور و الذكريات المرتبطة بكورونا من خلال المشاهد المؤلمة.
فقط وحدها تلك الصور الرائعة التي أبهرت الآخر قبل الذات خلال فترة الكمون تسجل وشما في دروس التاريخ ،وترسم ضوءا كالبلسم الشافي في وجه التجسيدات الهستيرية مثل الشعور بالاختناق في جدران الحياة رمزا للصمت في زمن كورونا.
في ظل الخلافات التي لا تنتهي يصارع المجتمع الكوني من أجل البقاء، إنه في مأزق بين الكوارث، الحروب، الأوبئة. مما يستوجب تعبئة شاملة بحثا عن الانتصار في معركة ضد مجهول، تلك المعركة التي لا تربح إلاّ بالطلقة الأخيرة، وأي تهور قد يجعل سؤال الانتكاسة مطروحا.
بين الاختناق والوعي الشقي تكوّن الكون رغبة في الحياة، بين الشمس والأرض مسافات الاختناق من أجل الوطن ، بين الطفل والمراهقة سؤال الذات ، بين كورونا والكمون سؤال الانفتاح على هوية من أكون؟
بين الرواية وواقع فيروس كورونا بعض من الارتباط ، يوحي بتلك الصرخة في زمن الشمس والسوادو العمى : إنه الإختناق حبا في الحياة . إنه الانعتاق من أجل الوجود.
صرخة بصوت عال: الحجر الصحي نقطة ضوء في عتمة الكمون.
 
ذ: أحمد الرياضي،أستاذ علم النفس كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء