الجمعة 26 إبريل 2024
مجتمع

تاريخ الحجر الصحي: الصدمة الوبائية والعادات الجنائزية زمن "الموت الأسود" (5)

تاريخ الحجر الصحي: الصدمة الوبائية والعادات الجنائزية زمن "الموت الأسود" (5) الأستاذ هشام بنعمر بالله بجانب لوحة فنية تؤرخ للطاعون الأسود

تقدم جريدة "أنفاس بريس" لقرائها هذه السلسة من المقالات التي توصلنا بها من الأستاذ هشام بنعمر بالله، متخصص في البحث التاريخي.

ويوضح الأستاذ بنعمر بالله بأن هذه المقالات "محاولة بسيطة للتأريخ لأنماط الاستجابة للأوبئة في المجال المتوسطي، ومنطقة المشرق الإسلامي خلال الفترة ما بين 1347 و1851م.. ورغبة شخصية في تقاسم المعرفة التاريخية في الزمن الكوروني"...

سلسلة من خمسة مقالات محاولة من هشام بنعمر بالله أيضا لفهم "سياسة احتواء الوباء مع تمديد فترة الحجر الصحي بالمغرب إلى غاية 20 ماي 2020."

في هذا السياق يقول الأستاذ بنعمر بالله المتخصص في البحث التاريخي بأن "هذه الورقة لا تستهدف سرد تاريخ تفشي وباء الطاعون وموجاته في حوض المتوسط، والمجهود الطبي الذي بدلته الهيئات الطبية المختلفة في أوروبا لدراسة المرض وتحديد العلاجات الأساسية للوقاية منه.."

  

"ما أسرع ما تفسُد  الأجساد التي تغادرها الحياة، و ما أقرف رائحتها عندما تفسُد "

الكاردينال فيديريكو بوريموFederigo Borromeo  رئيس أساقفة ميلانو عن طاعون 1630م.

 

 

ـ الغربان: "حفارو القبور" او جامعو الجثث Monatti

 كتب "فريديريكو بورميو" (Federigo Borromeo) رئيس أساقفة "ميلانو" في إبان طاعون سنة 1630 عن الأوضاع في المدينة قائلاً: "لم يعُد يسمع شيءٌ في ميلانو إلا صُراخ حفاري القبور قادمين بعرباتهم التي تنقل الموتى و المرضى إلى مشفى الطَّاعون".

 

كانت "أخرجوا الجثث"، العبارة التي يرددها كل مساء حفارو القبور المعرفون بـ "الغربان"، أصحاب المعاطف السوداء والعصي الطويلة، لإعلام عائلات المصابين باقتراب موعد التجميع حيث مشهد الطاعُون الأليم:

 

"تُرمى الجثث في الغالب من النَّوافذ إلى الشارع، ثم يحملها حفارو القبور بعرباتهم، وهم يعزفون على القيثارة أو ينقرُون على الدفوف، وغيره من الآلات الموسيقية لنسيان هذا البلاء العظيم"، يقول "ميكال بارتس"  Miquel Parets   الذي عاصر "الموت الأسود" في برشلونة (إسبانيا).

 

إن المحافظة على المعنويات المرتفعة بين حفاري القبُور، والاستمرار في أداء المهمة كان يتطلب الكثير من اللامبالاة، واحتقار الموت من خلال إتيان مثل هذا السلوك الشَّاد الذي يبدو غريباً. ومثله أيضاً جلوسهم فوق الجثث واحتساء الشَّراب، وتدخين الغليون ولفائف التبغ لطرد الروائح الكريهة لتعفن الجثث... وصفٌ أليم يدخل الرُّعب في نفس المارة بالشارع العام، يقول "ميكال بارتس".

 

"إن مشهد العربات وهي تعبر الشوارع مليئة بالموتى، وبعضهم بلباسهم الكامل وآخرون عراة، وبعضهم ملفوف في ملاءاتٍ، وآخرون بملابسهم الداخلية، يثير الرُّعب في النفوس".

 

في مشهد مريع رسم الفنان الإيطالي "ميكو سبادارو" (Micco Spadoro) لوحته الشهيرة التي تؤرخ لمشهد صرعى الطاعون الذي اجتاح نابولي ربيع سنة 1656م، حيث تحولت "ساحة ميركاتيلا" (Piazza Mercatella)  إلى مقبرة جماعية تتكدس فيها جثث الموتى ويقوم "الغربان" [Monatti] بملابسهم الحمراء المميزة بنقل الجثث ودفنها. (أنظر الصورة المرفقة بالمقالة)

 

نفس المشهد المروع يصفُه المؤرخ "جوسيبي ريبامونتي" (Giuseppe Ripamonti) الذي عاصر طاعون 1556:

"في الوقت الذي تتكدَّسُ فيه  أكوام الجثث، دائمًا أمام الأعين، دائمًا تحت أقدام الأحياء، جعلت من المدينة بأكملها قبرًا واسعًا ..."

 

كانت مهمة "الغربان" تقوم على جمع الجثث من الشوارع أو المنازل ونقلهم إلى المقابر الجماعية، أو نقل المرضى إلى المستشفى وحرقهم الملابس والخرق الموبوءة لتجنب العدوى.

كانوا في خدمة "المجالس الصحية" ويتم توظيفهم من بين الرجال الذين لا يعتريهمُ  الخوف من العدوى، أو الذين أصيبوا بالوباء ونجوا منه، وبالتالي اكتسبوا المناعة الطبيعية ضد المرض، وفي كثير من الأحيان كانوا من عتاة المجرمين عديمي الضمير، يغريهم الأجر المغري، وامكانية نهب ضحايا "الوباء".

 

يرتدي "الغراب" ملابس حمراء براقة جعلته ميزاً عند عموم النَّاس، يحمل جرسًا يقرعه للإشارة إلى وجوده.  الرقابة صارمة من قبل مفتشي الصحة العامة، والنبلاء أثناء ممارسة وظائفهم. ومع ذلك، فإن تفشي العدوى وتزايد عدد ضحايا الطاعون زاد من شأنهم، حيث أضحى أفراد هذه الطائفة "أسياد الشارع"، يعمدون إلى نهب منازل المرضى، وابتزاز الأموال من الأصحاء حتى لا ينقلوا إلى "بيوت الطاعون".

 

ـ المقابر الجماعية (مدافن الطاعون الخاصة)

أما التحول الكبير فتجلى في التغير الجدري الذي عرفه تنظيم الجنائز وممارسات الدفن زمن الأوبئة حيث تسجلُ أغلب المصادر التاريخية والدراسات الأركيولوجية (الأثرية) الحديثة عن ترتيبات دفن خاصة لم تكن معروفة من قبل، حيث انتشر في المدن الأوروبية على الخصوص، استخدام "القبور الجماعية" لدفن جُثث الموتى المتراكمة بسرعة لتفادي العدوى.

تتخذ (قبور الطاعُون) شكل خنادق عميقة متجاورة (يتراوح عمقها بين 6 و10 أقدام) تضم أحيانا أكثر من عشرين جثة. ولعل أبرز تعبيرات هذه القبور زمن الوباء استعمال الجير الحي لتبطين الحفرة وتغطية الجثث، حيث يتم ترسيب طبقة من مادة الجير الحي على أجساد الموتى من ضحايا الوباء للتقليل من الروائح الكريهة، وتعجيل عملية التحلل الطبيعي للجثث الموبوءة.