Tuesday 8 July 2025
مجتمع

تاريخ الحجر الصحي: من الكُردون (التطويق) إلى تنظيم قوانين "الكرنتينة" (4)

تاريخ الحجر الصحي: من الكُردون (التطويق) إلى تنظيم قوانين "الكرنتينة" (4) هشام بنعمر بالله مع عمل فني يؤرخ لأحد أزمنة الأوبئة (أرشيف)

تقدم جريدة "أنفاس بريس" لقرائها الأوفياء هذه السلسة من المقالات التي توصلنا بها من الأستاذ هشام بنعمر بالله، متخصص في البحث التاريخي.

ويوضح الأستاذ بنعمر بالله بأن هذه المقالات "محاولة بسيطة للتأريخ لأنماط الاستجابة للأوبئة في المجال المتوسطي، ومنطقة المشرق الإسلامي خلال الفترة ما بين 1347 و1851م.. ورغبة شخصية في تقاسم المعرفة التاريخية في الزمن الكوروني"...

سلسلة من خمسة مقالات محاولة من هشام بنعمر بالله أيضا لفهم "سياسة احتواء الوباء مع تمديد فترة الحجر الصحي بالمغرب إلى غاية 20 ماي 2020."

في هذا السياق يقول الأستاذ بنعمر بالله المتخصص في البحث التارخي بأن "هذه الورقة لا تستهدف سرد تاريخ تفشي وباء الطاعون وموجاته في حوض المتوسط، و المجهود الطبي الذي بدلته الهيئات الطبية المختلفة في أوروبا لدراسة المرض و تحديد العلاجات الأساسية للوقاية منه".

 

الصدمة الوبائية وتغيير السُّلوك الاجتماعي "التشهير" أو تمييز منازل ضحايا الطاعون بعلامات خاصَّة، والتخلي عن أداء الواجب "الانساني"

 

في الحلقة الثالثة تناولنا ظاهرة اجتماعية خاصة، ارتبط ظهورها بانتشار الطَّاعون الأسود (الموت الأسود) يتعلق بالفرار أو ما يمكن أن نطلق عليه "الهجر العائلي" الذي تولَّد بالأساس عن انتشار الخوف من انتقال العدوى فأضحت المدينة الموبوءة تتميز عن غيرها بسمات رئيسية مميزة :

تمييز المنازل الموبُوءَة وأصحابها:

يقول المؤرخ فرانك ولسن (Frank Wilson) عن ذلك:

"عُلِّمت المنازل بصليب أحمر وكلمات مثل "ارحمنا يا رب" أو بعمود يبلغ طوله عشرة أقدام تتدلى منهُ حزمة من القش خارج الباب الأمامي."

 

في معظم المدن الأوروبية يتم تمييز المنازل الموبوءة التي يكون أحد أفرادها مصاباً بالعدوى بتثبيت الصليب الأبيض أمام الأبواب الأمامية، أو عمود بطول عشرة أقدام تعلق فيه كومةٌ من القش، وفي مدينة تُوسكانيا الايطالية يتم تمييز المنازل برسم صليب أو وضع علامة إكس (X) أو صليب على شكل حرف (T) المعروف بصليب القديس أنطوني يرسم على ورق أزرق أو أبيض يثبتُ على الباب. كما كتبت على الأبواب عبارات مثل:

"ارحمنا يا رب" أو "ارحمهم يا رب" وبكتابة حروف مميزة مثل (P.P) التي تعني (الطاعون هنا Plague Present )  و"يسوع" و"المسيح" ويدوم التمييز أربعين (40) يوماً .

 

ولتمييز الناجين من العدوى بين الناس، فرضت الكنيسة في هولاندا مثلاً على المصابين النَّاجين حمل عصا بيضاء لمدة أربعين (40) يوماً أصبحت تعرف في جميع البلدان الأوروبية "عصا الطَّاعون البيضاء" وأصبحت بعد ذلك شارة مميزة للمفتشين عن البيوت الموبوءة.

 

ـ تراكُم جثت الموتى في الشَّارع العام والإعراض عن أداء الواجب الانساني:

تسبب الطاعون في صدمة نفسية غير مسبوقة في المجتمعات الأوروبية، وخوف "جماعي من العدوى"، حيث أصبحت جثت ضحايا الوباء ترمى إلى الشارع العام دون احترام لحرمة الموت و الموتى، حيث يرفض الناس من الأقارب أو الجيران خدمة المصاب، ورفض كذلك الأطباء والحلاقين والمساعدين وناقلي الموتى و حفاري القبور، لذلك:

"كانت الجثث ترقد مهملة في المنازل، فلا قس ولا ابن ولا أب ولا أي ذي صلة كان يجرؤ على أن يقترب منها، لكنهم كانوا يدفعون الأجور الكبيرة للخدم لدفن الموتى. لقد ظلت منازل المرضى مفتوحة بكل المقتنيات الثمينة والذهب والمجوهرات"...

 

وللتخلص منها يتم رميها في الشارع العام ليقوم حفارو القبور بنقلها إلى المدافن الجماعية حيث يتم طمرهم بدون طقوس دينية لائقة بالبشر (مؤمن مسيحي تقي)؟

اختفت المودة الاجتماعية بين الناس وعم الجفاء، واشتغل الناس بمخاوفهم دون الاكتراث بالآخر. لم يعد الاحسان والرعاية بين الأصدقاء والأحباء "لا يجرؤ الرجل على التحدث الى أي شخص قضى أقاربه وقريباته من الوباء..." لم يعد فقدان القريب والصديق مؤلماً. اصبحت اللامبالاة سلوكاً عادياً الامر الذي دفع الكنيسة الكاثوليكية للتدخل لحث الناس على التآزر لصدِّ الداء، ووصفت التخلي عن المرضى، ورمي جثث الموتى في الشارع بـ "السلوك المرعب" تارة و"عادة الشعوب الهمجية" المرفوضة تارة أخرى.

 

كتب جيوفاني موريللي (G.Morelli) بأسى شديد: "مات كثير من الناس في الشارع و على المقاعد. تمَّ التخلي عنهم دون تقديم المساعدة او السكينة للموتى من أي شخص. تركت الجثث دون دفن في الشارع لان الابناء و الاقارب و الجيران فروا من الروائح الكريهة... حتى المصابون لم يتلقوا الخدمات حيث لم يأت أحد لدفنهم"...