الأحد 24 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

خالد ليلي: اقتصاد اللارعاية

خالد ليلي: اقتصاد اللارعاية خالد ليلي

في كتابه الشهير "نهايـــة التاريخ و الإنسان الأخير" راهن فرانسيس فوكوياما في أطروحته على النفس الطويل الذي اتسمت به الليبرالية كنظام أثبت جدارته وحقق انتصاره في صراعه التاريخي ضد الأنظمة المضادة.. يقول في هذا الإطار "إن انتصار الغرب والفكرة الغربية إنما يعود وقبل كل شيء إلى الإنهاك الكامل لأية بدائل منظمة و قادرة على الحياة في مواجهة ليبرالية الغرب"، فتحققت هيمنة هذا النظام بمنظومته الفلسفية والسياسية والاقتصادية وما تملكه من ميكانيزمات تدبيريه جعلت المواطن يعيش على وهم الرفاه الاجتماعي ودولة الرعاية الاجتماعية والصحية كآلية كفيلة بكي وعي المواطن الغربي والعالمي عموما، في  ضمان مستوى رفيع من الحياة الاجتماعية وقادرة على تامين حياته وحياة أفراد أسرته. لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم بحدة، هو هل وصل هذا النظام الى درجة الإنهاك ذاتها بعد عبور هذه السنين الطويلة من السيادة والكونية؟ وهل عرت أزمة كورونا آليات اشتغال دول الرعاية في الغرب بعدما اعتبرت لفترة طويلة الأفضل على الإطلاق؟

بدأت دولة الرعاية الاجتماعية تاريخيا مراحلها الأولى مع بيسمارك في ألمانيا وطور صيغها النظرية بيفردج Beveridge ببريطانيا وأعطى شرعيتها إعلان فيلاديفا تحت مسمى "PRINCIPE DU CONSENSUS DE PHILADELPHI"  الذي نص في فصله الأول على أن "الإنسان ليست سلعـــة" وأن على الدول تصحيح الاختلالات والتفاوتات الناتجة عن نظام السوق في اتجاه الإنصاف والمساواة بتنظيمها ومراقبتها للقطاع الاجتماعي ومختلف هيئات الحماية الاجتماعية والسهر على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وقد اعتبرها المفكر الدانمركي GOSTA ESPING ANDERSSON   بمثابة عودة عن السلعنة Démarchandisation  كمفهوم يوضح فيه تجاوز السيرورة الاقتصادية الفاحشة التي طالت مناحي الحياة  من خلال النظام الرأسمالي الذي يعتمد  السوق" كآلية منظمة ذاتيا le marché auto régulérateur "  تبغي الربح وتسليع كل المواد والخدمات بجعلهـــا خاضعة للبيع والشراء، بعدما أبقت تدخل الدولة محصورا في الحدود السيادية (الدفاع، الأمن، إصدار العملــة، تدبير العلاقات الخارجية) من دون الاتجاه الى ما هو اجتماعي، وهو واقع خلف تفاوتات طبقية كبيرة وتمدد شاسع للهوة الاجتماعية بين الأفراد نتج عنه منطقيا ظلم كبير طال الطبقة العمالية وطبقات الفقراء، فكان لابد للدولة من التدخل للحد من جموح السوق بإقرار مؤسسات تهتم بتدبير المهام الاجتماعية لهذه الطبقات بإعادة توزيع الثروات عبر اقتطاع جزء من ثروات الطبقة البورجوازية  .

 

من هنا ترسختت فكرة دولة الرعاية الاجتماعية (في إحالة على عنوان كتاب شهير للفرنسي  Xavier Merrien François   ) بعدما عرفت أوروبا انتعاشة اقتصادية كبيرة بعد الحرب العالمية الثانية صاحبتها تطورات  مهمة في موضوع الضمان والاحتياط الاجتماعي خلال ما اصطلح عليه "بمرحلة الثلاثينيات العظيمة (ما بين 1950 و1980)"، لتتجه نحو تأمين حد أدنى يكفل الحياة لكل الأفراد بعدما شملتهم تغطية الاستشفاء والرعاية الصحية إضافة إلى مختلف الخدمات العائلية، وتحدد الاتفاقية الدولية 102 المعتمدة من لدن منظمة العمل الدولية المعايير الدنيا للضمان الاجتماعي والمرتبطة بمجالات الحماية الاجتماعية في تسعة عناوين، وهي: منح المرض، الخدمات العلاجية، البطالة، منافع المتبقين على قيد الحياة، منح العجز، منافع الأمومة، المنافع العائلية، التغطية ضد حوادث الشغل والأمراض المهنية، منافع الشيخوخة...، كما اعتبرت منظمة العمل الدولية (2011) أن برامج الحماية الاجتماعية يجب أن تتضمن كل الضمانات الأساسية التي تمنح لجميع الأفراد الحق وفي كل فترات حياتهم بالوصول إلى الخدمات الصحية والتعليمية وحد أدنى من الدخل بما يتماشى مع المستويات الوطنية.

 

لقد عرت هذه الأزمة واقع هذه الأنظمة التي كثيرا ما تشدقت بقوة أنظمتها الصحية ومستويات خدماتها، في حين أن الواقع يقول إن إيطاليا تعاني نقصا قدره 90 ألف سرير ومثلها فرنسا ب100ألف سرير وبلجيكا ب 40 ألف... هذا إلى جانب افتقاد أجهزة التنفس والطاقة الإيوائية والعنصر البشري، بل وصل الأمر إلى الكمامات والقفازات.. مما يعبر عن عمق أزمة هذه الأنظمة بعدما راهنت على القطاع الخاص في ظل انتصار الليبرالية المزعوم بعد سقوط حائط برلين وخصخصة كل القطاعات الحيوية بما فيها القطاعات الاجتماعية بدعوى الجودة والفعالية، في حين أن الأمر مرتبط بتوجه عالمي ساد هذه المرحلة التي امتدت من ثمانينيات القرن العشرين إلى اليوم، بعدما شهد تراجعا رهيبا للدولة إلى الصفوف الخلفية لتترك المجال أمام السوق عبر تشجيع كلي للمبادرات الخاصة وتسعير الخدمات بجعلها خاضعة لنظام التأمينات الصحية الخصوصية، في تعبير كلي عن انفتاح اقتصادي شامل وخضوع تام للرأسمال الخاص في إدارة كل المرافق الاجتماعية ما دامت قادرة على تقديم الخدمات بشكل أفضل لكن لمن يدفع أكثر، فتعرضت الصحة البشرية بذلك لمضاربات البورصة ومزايدات كبريات الشركات المتعددة الجنسية وجشع المختبرات العالمية ومن تم أصبح الرهان عليها كمجال للكسب والربح السريع والعالي القيمة في تجاهل تام لدعوات منظمات الصحة العالمية والوطنية وملايين الفقراء الذين لا يستطيعون الدفع والتسديد مقابل الخدمات المعروضة، فالرئيس الأمريكي الحالي وبمجرد ارتقائه لحكم الولايات المتحدة حتى بادر إلى إلغاء نظام الرعاية الصحية التي أشر عليها سلفه تحت مسمى "أوباما غيت" على علة ذاك النظام ومحدوديته، وليمنح لكبريات الشركة الحق في تقديم الخدمات بالأسعار التي تحددها بعيدا عن أية تدخلات  الدولة، فكانت النتيجة صادمة للعيان بعد سقوط ألاف القتلى وأضعافهم من المرضى الذين لا يجدون الأسرة الكافية لاستيعابهم، وليصبح التحدي الأساسي هو فك شفرة معادلة أنطولوجية تضع الصحة ورعاية المواطن ومعه الإنسان في كفة، والاقتصاد ومراكمة الثروة  في كفة أخرى.

 

لا شك أنه مع الانهيار الذي يتعرض الاقتصاد العالمي بعد فرض إجراءات الحجر الصحي وتوقف أغلب الشركات عن العمل وفقدان تريليونات الدولارات بعد توقف هذه الآلة الإنتاجية عن الدوران في كل دول العالم وفقدان ملايين مناصب الشغل، يطرح السؤال اليوم وبصيغة  أكثر حدة من ذي قبل حول مدى تعرض هذا النظام الليبرالي بدوره للإنهاك، كما وصم "فوكوياما" أعداء هذا النظام من قبل (كما أشرنا في بداية المقالة)، مما يؤشر على نهايته طبقا لحتمية التاريخ وشرعية قوانين التغيير الوجودية، ومن ثم البحث عن بديل شرعي أخر؟ أم هل سيطور هذا النظام صيغا جديدة تجعله يتكيف مع الواقع الجديد في سبيل إعطائه جرعة أخرى قادرة على إحيائه وبعثه من جديد؟ سؤال نتركه لما بعد كورونا لننظر، هل سينتصر العالم للاقتصاد الجموح والمتوحش، أم لقيم الرعاية التي تبغي الحفاظ على هذا الإنسان ككائن يستحق التكريم؟