الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

سعيد عاهد: الصحة أم الحريات؟

سعيد عاهد: الصحة أم الحريات؟ سعيد عاهد

العبارات؟! لا تأتيني للتعبير... كأنها سجينة هناك، خارج الحاجز بيني وبين العالم والآخرين... لا تسعفني إلا قراءةً عبر الشاشات التي استحالت نوافذي اليتيمة على الخارج، منفذي الوحيد من العجز الموبوء عن صياغة أسئلة الذات المنحجزة والعالم المتحول لغويا.

 

في معزلي، ليس عن الحق بل اتقاء للعدوى، أتصفح، أحيانا، الكتب والمجلات والجرائد التي غدت ملكا عموميا مشاعا بفضل (!) عولمة العدوى، فتأتيني قراءتها بأسئلة تسكن عجزي عن العثور على عبارات طرحها، وببعض بدايات الأجوبة.

 

"الحجر الجماعي في المنازل، حظر التجمعات، منع التجول، مراقبة الحدائق بواسطة طائرات بدون طيار. لم يسبق قبل الآن، في مراحل السلم، أن عانت الديمقراطيات من مثل هذه الخروق للمبادئ المؤسسة لها: الحريات العامة. من كان يتصور، قبل أسابيع فقط، أن أوربا ستهيمن عليها أجواء جديرة بجورج أورويل؛ وأكثر من ذلك، أجواء مقبولة على نطاق واسع؟"

 

أسئلة طرحتها افتتاحية "لوموند" الباريسية في عددها المؤرخ بـ 31 مارس 2020، مستحضرة أقصى درجات التحكم والمراقبة عن قرب التي كان يتلذذ بها "الأخ الأكبر" في رواية "1984"؛ أسئلة كنت سأطرحها أنا كذلك لو أسعفتني العبارة، لكن مع إضافة الديمقراطيات في طريق الترسيخ، الديمقراطيات المنبثقة رغم تراجعاتها هنا وهناك، بين مرحلة وأخرى، مثلما هو حال المغرب.

 

كأنها تترجم هواجسي المتعذرة الصياغة، تضيف الافتتاحية: "حرية التنقل وحرية التجمع وُضعتا بين قوسين، واختصاصات البرلمانات قُلصت، وحقوق المأجورين بُترت. متهمون يحاكمون، وأحيانا يحرمون من الحرية في غياب محامين. والسلطة التنفيذية منحت نفسها الحق في تقليص الحريات الفردية، علما أن هذا الاختصاص يؤول، في الظروف العادية، إلى القضاة طبقا لمبدأ فصل السلط الأساسي.

 

"تحت وقع الهلع والخوف، تمت، على نطاق واسع، استساغة، بل والموافقة على إجراءات راديكالية مثل الحجر الجماعي، إغلاق مؤسسات غير حيوية والعزل الصحي. لا أحد بإمكانه الاعتراض على فعلية "حالة الطوارئ الصحية" وعلى ضرورة الإجراءات الاستثنائية لكبح انتشار الجائحة. نقاش اليوم ينصب بالأولى حول معرفة إن لم يكن من الضروري فرض القيود هذه من قبل. ما يؤدي إلى مساءلة العلاقات المعقدة بين المعلومة العلمية ووعي الرأي العام والقرار السياسي.

 

"إن مواجهة جائحة تدمر حيوات بشرية وتهدد الكوكب بعدم الاستقرار أولوية قصوى. فمن اللازم إذن الامتثال، بدون أدنى تحفظ، للإجراءات الصحية، ودعم تطبيقها وقبول العقوبات المفروضة على المخالفين لها. وذلك احتراما ودعما، على الأقل، لمهنيي الصحة المنهكين."

 

تحضرني، وأنا في هذا المقام حيث تنوب افتتاحية "لوموند" عني في نحت علامات استفهام لم تسعفني حتى الكأس في ترتيبها، مشاهد صفعات رجال سلطة مغاربة لمغاربة خالفوا حقنا جميعا في الحياة، مثلما يحضرني جدل رافق هذه التصرف بين مستسيغين ورافضين. لكنني أصرف النظر لأواصل القراءة، بسعة الأرق الذي صار صويحبتي، مسائلا القادم من الأيام ومستحضرا ما أقره الجهاز التنفيذي من نصوص تهم المرحلة وتليق بها، لكن هذه المرحلة بعينها ووحدها:

 

"لكن هذا لا يعفي من التساؤل حول عالم ما بعد، وحول تهديد التطبيع مع الإجراءات الاستثنائية التي هي غير مقبولة إلا إذا كانت مؤقتة. والحال أن تجربة الماضي تُخصب القلق. فكلما تم تطبيق الإكراه، كلما نادرا ما يعود المشرع إلى نصوص أكثر ليبرالية."

 

وتعليلا لاستمرار إعمال الاستثناء رغم انتفاء مسوغاته، يسوق محرر الافتتاحية مثال قانون 1955 الفرنسي حول حالة الطوارئ المعتمد مع انطلاق شرارات حرب الجزائر، القانون الذي تم تحيينه لاحقا وملاءمته لكن دون إلغائه؛ وكذا الإجراءات المعتمدة فرنسيا أيضا في 2015 لمواجهة موجات الإرهاب، والتي أصبحت اليوم مندرجة في القانون العادي.

 

وكما هو الحال في المغرب، فـ "حالة الطوارئ الصحية سابقة في الديمقراطيات (الغربية). لكن تهديد جائحة جديدة سيظل منقوشا في الأذهان. ولذا، فرغبة الحكومات في تحويل المؤقت إلى وضع دائم ستكون قوية. وهو التراجع الذي يجب الاحتراز منه، وخاصة في مجال قانون الشغل، والمسطرة الجنائية والحريات العامة.

 

"من اللازم أن يصبح الاستعجال الصحي مختبرا للطرق الجيدة للوقاية وتدبير الجائحات، وليس مختبر الإجراءات الوائدة للحريات."

 

ووفق الافتتاحية ذاتها، فتهديد تقليص الحريات يعلن عن نفسه بقوة في حقل الحريات الفردية. وما الصين إلا عنوانه العريض اليوم، ومؤشرا يحمل في طياته انطباعا أولا على التطور المقلق الذي قد تسرع الجائحة وتيرته : الاستعمال على نطاق واسع للهواتف الذكية لإجبار الأفراد على التبليغ عن درجة حرارتهم، ولرصد تحركات المصابين وتحديد هوية من يخالطونهم.

 

"والحال أن تعميم جمع المعطيات الصحية يمكن أن يدعم نظاما سلطويا، لكن بإمكانه أيضا أن يوظف في خدمة الصحة العمومية، ومعرفة الأخطار والوقاية الفردية والجماعية من الأمراض. لسنا مجبرين على الاختيار بين الصحة والحريات. ونظرها لكونه تهديد للحياة، فكوفيد-19 يشكل أيضا تحديا للديمقراطية."

 

أجل، إن إجبار الاختيار بين الصحة والحريات معادلة خاطئة في اختيار عنصريها.