الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

محمد بنطلحة: ملاحظات في زمن كورونا

محمد بنطلحة: ملاحظات في زمن كورونا محمد بنطلحة

إلى وقت قريب، كثيرون منا -إن لم أقل كلنا- لم يكونوا يخفون ثقل الأعباء والمسؤوليات الملقاة على عاتقهم. بغض النظر عن طبيعة هذه الأعباء، ودون الأخذ في الاعتبار جنس وسن الفئات المعنية بها، كانت الأنفس تمد تطلعها إلى فترة العطلة أو نهاية الأسبوع. اليوم، تغيرت أشياء كثيرة، امتد تأثيرها من الفرد إلى الجماعة. فجأة، أصبحت كل طموحاتنا هي العودة إلى الحياة الطبيعية التي كان العديد منا يتذمر منها. لربما ما اكتشفناه، بغض النظر عن بعض الاختلافات، أن حياتنا لا تخلو من لحظات جميلة ما أحوجنا إلى الاستمتاع بها إذا ما نحن تركنا جانبا سوء التقدير أو الفردانية الفجة.

 

ما هي إلا أيام حتى تغيرت توجساتنا من مفهوم الدولة "الحارسة" التي شددت على تقديم صحة مواطنيها وسلامتها على كل الحسابات الاقتصادية. الدولة الاجتماعية عينها وجدت نفسها في حاجة إلى العنف المشروع لثني الناس عن التمادي في اللامبالاة تجاه عدم التقيد بإجراءات الحجر الصحي. والأدهى من ذلك، اختفت الإيديولوجيات في لحظة ما، وحلت محلها، ولو نسبيا، "الإنسانية" في أبهى صورها. صحيح أن التعاطي مع جائحة كورنا لم يكن واحدا في جميع الدول، غير أن منسوب الوعي بدقة المرحلة في تنام مستمر. منعطف كورونا، بدون شك، يتوفر على المؤهلات ليمسح بالقول بأن أحدث وسيحدث، مستقلا، تحوّلا في مسار التاريخ. سرعان ما أصبحنا أقرب إلى الاعتراف بتعثر النظام العالمي الحاليّ وعجزه البنيوي عن التعامل مع التطورات القائمة. إذا ما استعرنا باراديغم ميشيل فوكو الذي سبر آليات السلطة لتعزيز الضبط والرقابة، وتعميق أنظمة التأديب والإخضاع ضد الشعوب، يمكن أن نفهم من يتحدث عن تعظيم الذعر من كورونا وتفسيره على أنه محاولة سلطوية لإعادة إنتاج وعي - ولا وعي خائف يرتمي في حضن الأنظمة مستجدياً الحماية الصحيّة والجسديّة.

 

على كل حال، لا يمكن استبعاد هذا التأويل، وعلى كل حال ليست المرحلة مناسبة لفتح الشهية أمام التنبؤات بالنتائج الاقتصاديّة في ظل المعطيات المتوفرة التي تتغيّر باستمرار أفقيا وعموديا. كما أن هذه المعطيات على اختلاف نسبتها من دولة إلى أخرى لا تطمئن تماما لنظرية المؤامرة، وحتى إذا ما تم تجاوزا التسليم بذلك، فالدول المتهمة بصناعة الفيروس لا يبدو أنها مستفيدة بالنظر إلى أرقام الإصابات الوفيات والمخاوف المترتبة عنها. من هنا، يكفي القول أن التفكير في التفسير النظريّ للانتقال نحو براديغمات جديدة أو إطار بديل يحتاج إلى وقت وحذر كافيين لتجاوز الأحكام المسبقة. الناس لا تجلس، بتعبير بشارة، وتستنتج نظاما عالميا جديدا لأنهم يصبحون أكثر حكمة بعد الكوارث. لا تجري الأمور على هذا النحو. وحين يتحدثون عن النظام العالمي، إنما يقصدون عادة النظام الدولي، وليس التوازن البيئي بين الإنسان والطبيعة. لنفكر قليلا، هل سوف يغير الوباء النظام الدولي بمعنى المنطق الذي تقوم عليه علاقات الدول وهو توازن المصالح وتوازنات القوى؟ هل سوف تصبح الدول أكثر عقلانية أو أكثر أخلاقية، أو كليهما بسبب الوباء؟ لا أعتقد ذلك. نأمل أن يصبح الناس عموما أكثر عقلانية أخلاقية، وسوف يؤثر ذلك على السياسة، وربما على طبيعة الأنظمة عسى أن يمهلنا القدر حتى نرى القوى الكبرى منشغلة بكرامة الإنسان، في أي مكان، ومن ثمة، تتصدى لكل أشكال العنف وزرع بذور الحرب وفرض الأفكار بالقوة أو الابتزاز. نعم، العالم، بعد هذه الجائحة، مطالب بفحص الإطار المرجعي الموجه للعلاقات والسلوكات، وتكييفه مع ما يستوعب فكرة العيش المشترك.

 

لحسن حظنا، بتعبير إدغار موران، أن ثمّة درس نتعلّمه من هذه الأزمات، وهو أن رغبة الناس في الحياة تظل هي الأقوى دوما، وأنهم في النهاية يتجاوزون كل ما يعترضهم في طريقهم لكي ينعموا بلحظاتهم النادرة فوق الأرض. صحيح أن الاستمتاع بهذه اللحظات في وقت الشدة يقتضي أن تعد الشعوب نفسها لحظات الهدوء والرخاء على مستوى تحسين شروط العيش (مستشفيات، مدارس عصرية، قوات أمن ذات ثقافة حقوقية وقانونية، وميزانية كافية للبحث والإبداع العلمي)، لكن لنتذكر أنه حالما يتغلب الناس بفضل تضامنهم ووعيهم بدقة المرحلة وما تقتضيه من تعبئة جماعية، نرجو أن تنزاح السلطة السياسية إلى أولئك الذين أظهروا تعاطفهم مع الآخرين، وتؤول الأسبقية إلى القطاعات الاقتصادية التي أظهرت تعاطفها مع الناس، كقطاعات الصحة، والمستشفيات والمصحات، والتغذية والتعليم والبيئة.