الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
جالية

يحيى المطواط: رسالة شكر من ميلانو إلى جائحة كورونا

يحيى المطواط: رسالة شكر من ميلانو إلى جائحة كورونا يحيى المطواط

شكرا لك أيها الزائر الوافد علينا بدون موعد مُسبق.

شكرا لك أيها الفيروس الذي توَّج نفسه بتاج حيَّر به علماء الإفرنجة ومنجمي ورُقاة المشرق والمغرب.

أشكرك لأنك أسقطت ورقة التوت عن شجرة الوهم التي كان يختبأ وراءها من كانوا يسبحون برأسمالهم بكرة وعشية.

أيها الزائر بلا موعد، لا يهمني أن تكون لقيطا بيولوجيا أو هاربا من إحدى مختبرات التجارب عمدا، أعرف أنك جبان تتسلل خفية للآمنين.

لا يهمني إن كانوا قد صنعوك عن قصد أو ساعدوك على التناسل من عائلتك الكبرى، لا تهمني شهادة ميلادك، ما يهمني أني اعرف أنك لقيط، ومِثلك كثيرون من أبناء جلدتي انكشفت ضغينتهم، أرادوا منك أن تنوب عنهم في اغتيال كل ما هو  جميل.

أتدري لماذا أشكرك أيها اللعين، أشكرك لأنه بفضلك استطعنا التمييز بين إنسانية الإنسان وكائنات غابت إنسانيتهم، يريدون أكل السحت حتى من صندوق دعمٍ خصص لمواجهتك.

أعرف أنك تريد الإجهاز على أكبر عدد ممكن من بني البشر، لكنك على ما يبدو غير مُطلع على تاريخ صمود البشرية ضد كائنات من جنسك كانت  أخطر وأشد منك، ربما لم يُعلِّموك أن هذه السلالة التي تحارب جُبلت على التطور الذاتي، كم أنت غبي أيها الفيروس وقد وفرت بنفسك لبني البشر ظروف التكاثر والتوالد من جديد بفضل الحجر الصحي الذي فُرض خوفا منك.

أشكرك أيها الجبان، لأنك منحتنا فرصة إعادة ترتيب مفاهيمنا، بفضلك اجتمعت العائلة وأصبحت للأواصر الاجتماعية معنى، منحتنا عطلة لننتبه إلى أطفالنا وليقترب الأزواج فيما بينهم بعد ما كانت قد باعدتهم انشغالات  الحياة اليومية وبعد أن سيطرت مختلف وسائط التواصل الاجتماعي على أوقاتهم.

سنحاول أن نقتنص منك كل ما هو جميل رغم قبح وجهك، رغم ما لحقنا منك من سوء، وما سببته من آهات، نجحت في أن تحرم الأطفال من مدارسهم والشباب من أحلامهم، نجحت في أن تخطف الابتسامة من على ملايين الوجوه، نجحت في أن لا تعطي فرصة الوداع الأخير لابن مع أمه وأبيه  أو لحبيب مع حبيبته، بكل وقاحة عزلت الأموات في موتهم كما عزلت الأحياء في حجرهم، أردت لضحاياك أيها اللعين أن تشيع جنازاتهم وحيدين بدون وداع أخير، حرمت أهلهم حتى من لحظات حزن مقدس، لكنك لن تنجح في أن تقتل فينا الرغبة في نشوة الانتصار.

أشهد لك أيها الفيروس العفريت أنك ديموقراطي أكثر من أنظمتنا وسياسيينا، فأنت لا تميز في ضحاياك بين علية القوم وعامتها، لا تنفع معك إتاوات ولا حسابات بنوك متفرقة عابرة للحدود هنا وهناك، لا تعترف بعلاج مصحات خمسة نجوم، لكن حتما ستسقط ديموقراطيتك طالما لا تحترم الإنسان.

سيدي الفيروس هل تعلم أنه قد اختلفت في وصفك الأقوام؟ واعتبرك بعض الضعاف جند من جنود الواحد القهار، جئت لتبدل قومًا بقومٍ لأنه استُشري الفساد على الأرض وانتشر بين العباد.

هل تعلم أن بسببك استهزأوا من الصين ومن بعدها الطليان؟ بسببك انفضَّت من حولنا نحن الرُّحال، شرذمة من الأنذال و نعتتنا بأوصاف لم تخطر لنا على بال، بعد أن كنا خير سند لهم في أحلك الظروف والأحوال.

   

شكرا سيدي الفيروس،

لأنك استطعت أن تتربع على عرش هذا العالم، وتصبح أنت الناهي والآمر، قلبت الموازين، وأسدلت الستار عن أنانية ذاك القطب أو هذا الاتحاد، كشفت عورة من استأسدوا على أوطاننا بليبراليتهم المتوحشة حتى بدأنا نبدو لهم كفئران مختبرات لتجاربهم.

 

شكرا أيها الفيروس،

لأنك استطعت أن تقدم حلولًا عجز العالم بكل منظماته وهيئاته أن يقدمها طيلة عقود من الزمن، ففي لحظة سهو جماعي، ومن وسط صخب مؤتمرات المناخ والأرض والبيئة...، جئت أنت أيها الكائن الغامض، لتمنح الطبيعة هدنة لتتنفس وللمناخ أوكسيجينا ليستجمع أنفاسه، وللأسماك في البحار والمحيطات راحة بيولوجية لم تكن  لتحلم بها لولاك، بفضلك قد تتغير حياتنا بالفعل. وبفضلك أدركنا أننا لسنا بحاجة إلى السلاح بقدر حاجتنا إلى العلم والعلماء إلى المستشفيات والأطباء إلى المدرسين والجامعات وإلى الاستثمار في العقول البشرية بدل تطوير أساليب الدمار.

 

شكرا لأنك ستصنع لنا جيلا جديدا معقمًا ينتبه لكل تفاصيل الطهارة، وبعادات مختلفة ونظرة مغايرة، نعم جيل جديد سينتبه لما حوله وسيستيقظ من سباته لاستقبال عالم أفضل، ربما بموازين قوى قد تتغير، وبفلسفة وجودية تعرف كيف تنتصر للخير في متلازمته الأزلية مع الشر.

 

قررت ألا أشكرك رغم كل ما ذكرته من محاسنك، لأنك لا تستحق، سأشكر الله الذي جعلني أعيش هذه التجربة بمآسيها وأحزانها وآلامها ومشاهدها المرعبة.

سأشكر كل شَيْء إلا أنت أيها اللعين سأشكر زوجتي وأطفالي هم من شاركوني وحدتي، سأشكر أصدقائي ومعارفي، سأشكر سنة 2020 بما يحمله هذا الرقم من أسرار، سأشكر كل شيء، لكني حتما لن أشكرك، وسأتذكرك ويتذكرك العالم، وسيؤرخ التاريخ لذكراك المشؤومة، وسيتحدث الرواة عن حرب انتصر فيها بنو البشر على زائر كان قد غَدر.