Wednesday 14 May 2025
كتاب الرأي

هشام بوسيف: التغيير بين الأداة المهترئة وسوء الاستعمال

هشام بوسيف: التغيير بين الأداة المهترئة وسوء الاستعمال هشام بوسيف

في إطار التعامل مع مشكل معين أو وضعية معينة من أجل فهمها وتغييرها، ينبغي الانطلاق من الواقع بكل ما تتطلبه الموضوعية من تجريد للذات المحللة وذلك من أجل معرفة العوامل المسببة لهذا المشكل وفهم السلسلة السببية لحدوثها وتحديد طرق التأثير في هذه السلسلة من أجل الوصول إلى نتيجة مغايرة يحل معها المشكل وتكتسب آليات تمكن من منع حدوثه في المستقبل. ولابد للموضوعية أن تكون حاضرة في جميع أطوار التحليل منذ رصد المشكل إلى تصور السيناريوهات المختلفة إلى العثور على الحل النهائي ثم الإجراءات الوقائية منه في المستقبل ولكن الطبيعة البشرية الناتجة عن التطور منذ مئات آلاف السنين تقف في كثير من الأحيان عقبة أمام هذه الموضوعية وما سيترتب عنها من عقلانية.

 

لقد تطور العقل البشري ليستطيع أخذ قرارات معينة والحسم فيها في مدد زمنية وجيزة تستوجبها الظروف القاسية التي نشأ فيها منذ اللحظات الأولى من ظهوره والتي بتأخرها تصبح حياته على المحك وعليه أصبح يقوم بتحليل القدر المتوفر من المعلومات لاستخلاص النتائج أو السلوك الأمثل للنجاة بحياته بطريقة تكون في معظم الأحيان لا إرادية حيث أن أي تأخير معين بسبب التفكير وتخيل السيناريوهات يمكن له أن يعرض حياته للخطر. غير أن التطور الثقافي والحضاري للإنسان أصبح متسارعا بشكل تجاوز التطور البيولوجي لعقله وكيفية اشتغاله اللاواعي خصوصا وأن المعلومات التي أصبحت متوفرة هائلة جدا ووتيرة إنتاجها ضخمة تستحيل معها المواكبة والاستيعاب فيكتفي ببعضها فقط لنزعته اللاواعية في الاتخاذ السريع للقرارات والمواقف حتى وإن لم تكن المشكلة التي هو بصدد تحليلها تستوجب استعجالا معينا.

 

تختلف المشكلات وتتغير درجة تعقيدها وأهميتها والمؤهلات اللازمة لحلها والمدة الزمنية الضرورية لذلك وحتى في كونها قابلة للحل أم لا في الأصل. ومن بين الحقول المعرفية التي يقضي مختصوها جل وقتهم في حل مشكلات تأتي الرياضيات كأحد المتصدرين فيها، حيث يمضي الرياضياتيون معظم وقتهم في التفكير فيها للعثور على حل معين ليمروا إلى آخر وهكذا دواليك وعلى عكس ما يعتقده أغلب الناس فالرياضيات هي الحاملة لأبسط المشاكل وأبسط أدوات حلها بشكل واضح يستحيل معه تفنيد الحل. ففي الرياضيات ليست قواعد اللعبة واضحة فقط بل تطورت لدرجة القدرة على الحسم في كون مشكل معين يمتلك حلا من الأصل أم لا وعندما يتم العثور عليه في حالة وجوده يصبح نهائيا لا يمكن لأي أحد تفنيده أو إنكاره، وذلك لخضوعه لسلطة المنطق الكوني الذي لا يجادل فيه أحد فتكتسي الحلول صبغة أبدية.

وفي هذا الصدد قال جون فون نيومان أحد أبرز علماء الرياضيات والفيزياء: "إذا كان الناس يعتقدون أن الرياضيات ليست بسيطة فذلك ليس إلا لكونهم لا يدركون مدى تعقيد الحياة".. وهذا في إشارة منه إلى بساطة التجرد من الذات أثناء التعامل مع مشاكل مجردة وموضوعات مجردة تحكمها قوانين واضحة ولم تصل الرياضيات إلى هذه الدرجة من البساطة إلا بعد كانطور الذي وضع أسسها الحديثة وبناها على أساس نظرية المجموعات التي ستنبني بدورها على عدد محدود من الموضوعات التي ستستنبط منها فيما بعد كل الرياضيات من جبر وهندسة واحتمالات وتحليل وغيرها بسلطة المنطق الغير القابل للمجادلة. وبالنسبة للرياضياتيين ما قدمه كانطور يعتبر من بين الأحداث المفصلية في تطورها ومعها باقي الحقول المعرفية التي تعتمد عليها حيث قال دافيد هيلبرت " من الجنة التي منحها كانطور لنا، لن يخرجنا أحد". وواقع الحال هو أن الأغلبية الساحقة من المشكلات ليست مشكلات من طينة مثيلاتها في الرياضيات. المشاكل التي يواجهها الإنسان في حياته أكثر تعقيدا وقدرته على استيعاب المعطيات اللازمة لحلها والربط بينها والتزام الموضوعية واستخلاص الحلول المناسبة جد محدودة تحول بينه وبين العثور على الحل الأنسب.

 

ويبقى المشكل الكبير هو ذلك المطروح على التنظيمات السياسية التي تسعى لتنزيل مشروع معين له مميزاته، وخصوصا إن كان ذلك المشروع بعيدا كل البعد عما هو قائم. فتنطلق مهمة التغيير من قراءة الواقع وفهمه ومعرفة العوامل التي تحدده وتؤثر فيه لتقيس مدى البعد الحاصل ما بين ما هو قائم وما هو منشود. وتعقيد الواقع يجعل العثور على كيفية تنزيل المشروع صعب المنال وفي غالب الأحيان يبدو مستحيلا، خصوصا وإن كانت الوضعية القائمة قد عمرت لمدة طويلة دون تراكم تغييري معين ودون مؤشرات يتم بواسطتها قياس مدى نجاعة الطرق المستعملة من عدمها. ويشكل غياب الرؤية الواضحة لأفق التغيير ومعه الهوة الكبيرة بين ما هو قائم وما هو مراد بالإضافة إلى غياب ضمانات للتطور والواقع الذي يزداد تأزما رغم كل المحاولات عوامل أساسية في جعل العديد من الأشخاص يعتزلون المساهمة في هذا التغيير الشامل على حساب أولويات أخرى. والرهان الأول لإعادة ثقة الناس في العمل السياسي وجدواه هو إعادة زرع الأمل في إمكانية التغيير بضمانات ملموسة ينبغي التفكير فيها. والبؤس الحقيقي هو ذلك النضال الذي يركز على الفشل والإفشال وتكريس خطاب انعدام المكتسبات والتراجعات فيجعل الناس يركنون إلى حتمية عدم التغيير وإفراغ الفعل السياسي من كل جدوى والعدو الأساسي لذلك هو من يحيل للأمر الواقع ليبرر به الفشل فيستديمه بطريقة غير مباشرة ويبعث اليأس في غيره والأنجع هو الإحالة للواقع بهدف التفكير في كيفية تجاوزه وليس العكس.

 

كل من ينشد التغيير ينبغي أن يتعامل مع التنظيمات التي ينتمي إليها، إن كان في تقديره أنها الأمثل للاشتغال، على أنها أدوات وعليه أن يفهم العلاقة الجدلية بين الأداة ومستعمل الأداة. فالتنظيم المهترئ لا يمكن أن ينجح في مهمته مهما كان المنتمي إليه على قدر عال من الكفاءة والصدق فيما يريده كما أن التنظيم الفعال لا يمكن له أيضا أن ينجح في مهمته إن كان المستعمل لا يحسن استخدامه، كالسيارة التي حتى ولو كانت من طراز رفيع وفي أحسن الحالات لن تقوم بمهمتها، وكذلك لن يستطيع أي كان التقدم بسيارة معطلة مهما كانت مهارته في القيادة. وعليه ينبغي على المستعمل صيانتها وتجديد قطعها ومعرفة مختلف العوامل الخارجية المؤثرة على سيرها كحالة الطرقات والطقس وغيرها ويكتسب المهارة اللازمة لقيادتها. الثقة العمياء لا تنفع. السيارة المهترئة لن تقوم بمهمتها مهما كانت ثقة السائق فيها ومهما كان الخطاب المستعمل لترويج كونها في حالة جيدة. الواقع هو الحكم والنتيجة النهائية هي الحكم. والمدخل الأساسي للتقدم هو صيانة الأداة وتجديدها وتكييفها مع الواقع وتحصينها من الإرادة الفردية والاختراقات ومأسسة الفعالية والخير فيها.

 

والكارثة الكبرى هي عندما تتحول الأداة إلى مشتل لليأس فتجعل كل من يلتحق بها وخصوصا إن كان محملا بأمل معين في التغيير يركن إلى الخيبة ويزداد يقينه في استحالة التغيير يوما بعد يوم كلما خبر الأداة وعايشها وعايش اشتغالها وممارسات مستعمليها فيحس باستحالة تغييرها وصقلها قبل أن يحس باستحالة تغيير النظام والمجتمع الذي يصبح تحصيل حاصل لكون التغيير الأول لازما للثاني. ولهذا ينبغي للأمل وزرع الأمل أن يكون المدخل الأساسي للتغيير ويجب الانتباه لفعالية الأداة وفعالية مستعملها والحذر المطلق من تحول الأداة من مبعث للأمل إلى مشتل لليأس.

 

- هشام بوسيف، عضو المجلس الوطني للشبيبة الطليعية