الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الرحمان العمراني: الشعبوية في الحاجة لتوضيح أدق للمفهوم

عبد الرحمان العمراني: الشعبوية في الحاجة لتوضيح أدق للمفهوم عبد الرحمان العمراني
وأنا استمع إلى عرض بالفيديو لمحاضرة هامة بعنوان: "لماذا خسر الحزب العمالي البريطاني الانتخابات الأخيرة؟" ألقاها بجامعة Kent البريطانية أستاذ العلوم السياسية المرموق Matthew goodwin، المختص في تحليل تطورات الحقل السياسي ومرجعيات اليمين واليسار في علاقتها بالتحديات الاجتماعية الجديدة في البلدان الغربية، وخاصة في بريطانيا والولايات المتحدة، وجدتني أتساءل حول مدى صلابة  العديد من المفاهيم التي كانت قد استقرت في ذهني كيقينيات، ومنها مفهوم الشعبوية الذي أصبح يقدم -وفق ما أبرز goodwin- كمفتاح أول وحاسم لفهم صعود فصائل اليمين القومي، وأحيانا فصائل من اليمين المتطرف في معظم البلدان الأوروبية ونتائجها الانتخابية المتزايدة.
كودوين أبرز في هذه المحاضرة جملة حقائق تساءل اليسار الديمقراطي في عمق يقينياته السابقة وتستدعي منه وقفات تأمل ومراجعة
ومنها:
 أولا، إنه -أي اليسار- بصدد فقدان العديد من قواعده الاجتماعية (الطبقة العاملة والياقات الزرق) بفعل عجزه عن استيعاب الانتظارات الجديدة وسط هذه الفئات الاجتماعية التي،أكثر فأكثر اليوم، يتداخل لديها القلق الاجتماعي بالقلق الثقافي، وهي ترى المجتمعات المحلية تطحن بالالة العولمية المفتتة للهويات. في نفس الوقت الذي تتعاظم فيه الفوارق بصرف النظر عمن يكون في دفة التسيير (يمين، وسط أو يسار).
ثانيا، إن قبول اليسار الديمقراطي والعمالي  منذ بلير وحكومات ميتران المتعاقبة قبله، وتسليمه بإلغاء الضوابط والتحرير الشامل للمبادلات والمنطق النيوليبرالي، خلف حالة من الاغتراب في صفوف الطبقات العمالية انعكست على مستوى علاقاتها العضوية بالأحزاب التي شكلت بيتها المشترك منذ خمسينيات القرن الماضي، وفي المحصلة فقدت بالتدريج الثقة في قدرة هذه الأحزاب على ترجمة مطامحها. 
ثالثا، أن أحد الظواهر التي سجلتها العشريتين الأخيرتين أن النخب المعولمة الكوسموبوليتية، المتحركة، المشتغلة في الخدمات، هي التي صارت تجد نفسها بصورة مريحة في الإطارات السوسيال-ديمقراطية ومنها يتشكل أساسا ممثلوها في البرلمانات ومؤسسات اتخاذ القرار. ويذكر كودوين أن البرلمانيين من أصول طبقية عمالية لا يشكلون اليوم ضمن الفريق العمالي ازيد من 4/100 من مجموع نوابه في برلمان وستمنستر، وهي مفارقة حقيقية. 
ويذكر أيضا كيف فقد الحزب العمالي في الانتخابات الأخيرة المدن الرئيسية التي تعرف بالحزام الأحمر والتي شكلت دائما عمقه الانتخابي الاستراتيجي ( المحيط القريب من مانشستر،ليفربول ،برمنغهام ومدن اخرى في الشمال) وكيف انتقل مركز الثقل الانتخابي  إلى لندن مدينة الياقات البيض الانفتاح المعولم بامتياز.
والنتيجة إن  الطبقات العمالية وجدت نفسها في وضعية المنسية او المتروكة في الخلف  left behind. وتصويت البريكست كان نوعا من التصويت العقابي ضد النخبة المعولمة. 
رابعا، يعتبر كودوين أن مشكلة حزب العمال لم تكن -كما ادعى فصيل كبير من الإعلام ومن قيادات الحزب ذاته هي وجود السيد جيريمي كوربن على رأسه وتطرفه وعودته إلى خطاب التاميم وفرض الضرائب على الأغنياء. وكونه وجه غير انتخابي unelectable. أن هذا التفسير يقفز على الأسباب العميقة لأزمة الحزب ويقف عند  ظواهر ظرفية، حتى لا نقول سيكولوجية خفيفة.
ويرد كودوين في معرض خواء هذه الأطروحة  بالاحالة إلى الوضعية الصعبة للأحزاب السوسيال ديمقراطية في السويد وألمانيا وهولندا وفرنسا وغيرها حيث لا وجود لعامل كوربن corbyn factor في الموضوع.
خامسا، أن المهمة الأساسية الملقاة على عاتق اليسار الديمقراطي تبعا لذلك هي: كيف يعيد الارتباط to reconnect مع قواعده الطبيعية وإعادة قراءة مواقفه بخصوص المد النيوليبرالي وفهم الترابط الحاصل لدى الطبقات العمالية اليوم  بين القلق الثقافي (بفعل الة التحطيم العولمية) وبين القلق الاجتماعي (تعاظم وتنامي الفوارق الاجتماعية). ولن يفيد في شيء أن تكتفي فصائل هذا اليسار باتهام الطبقات العمالية والشعبية بالمحافظة الاجتماعية social conservatism أو ازدرائها انطلاقا من قيم النخب المعولمة.
ويبين في نفس السياق كيف تمكن جونسون النيوليبرالي التاتشيري حتى النخاع من استمالة أصوات الطبقات العمالية باستغلال قلقها الاجتماعي وإبراز ميله إلى الوسط، وأحيانا باستعمال خطاب يساري على مستوى الاختيارات الاجتماعية (في مجال التغطية الصحية والاجتماعية مثلا).
سادسا، تأسيسا على ما سبق يعتبر ماتيو كودوين -والذي لا يخفي تعاطفه مع اليسار الديمقراطي بشكل عام- أن هذا اليسار مدعو إلى مراجعة عميقة وتجديد كبير يراعي حقيقة التحولات الاجتماعية ،ذلك على أربعة مستويات  أساسية. 
1- مستوى الخطاب والحكي narratives. 
2- مستوى اللغة vocabulary 
3- مستوى السياسات policies 
4- مستوى الطبقة السياسية المسيرة personnel. 
ولن يفيده الوقوف والتموقع والتقوقع ضمن مقولة او مفهوم الشعبوية لتفسير إخفاقاته الانتخابية. فهذا المفهوم على ضوء ما سبق لا يستقيم تفسيرا شافيا ولا مبررا كافيا  عندما يتعلق الامر اليوم بمقاربة أزمة اليسار الديمقراطي أو السوسيال ديمقراطي .
في هذه المحاضرة بدأ كودوين بالقول إنه قرأ الكتاب الضخم للسيدة هيلاري كلينتون بعنوان  what happened ماذا حصل؟ والذي كتبته سنة بعد فشلها في الانتخابات الرئاسية وفوز ترامب .والكتاب الذي يقع في أكثر من 400 صفحة هو محاولة من طرفها لفهم ما جرى.
يذكر كودوين أنه قرأ الكتاب بتمعن ووصل إلى الصفحات الأخيرة ولم يجد تفسيرا من طرف هيلاري لما جرى!!! 
لأنها وقفت على الظواهر ولم تستحضر الديناميات العميقة التي كانت تفعل فعلها في عمق المجتمع والتي جعلت فوز ترامب ممكنا في تلك الفترة.