اسمه سي أحمد،
رجلٌ مسن، يمشي بخطى وادعة، بلحية بيضاء تشبه غيماً شاخ في السماء،وعينين حالمتين، تعانقان الزمن كأنهما صندوق ذكريات مغلق بالشوق.
كان يسكن بيتاً طينياً تآكلت ألوان نوافذه الزرقاء،
يتكئ على حديقةٍ صغيرةٍ صاغها بيديه شبرا شبرا، وعشباً عشباً.
يتكئ على حديقةٍ صغيرةٍ صاغها بيديه شبرا شبرا، وعشباً عشباً.
أربعون عاماً، وهو يزرع أرضه،
ويغرف من بئرها ماءً نقياً يسقي به شجرة البرتقال والنعناع، و الدلاح، وشجيرات الطماطم، والخيار .....
ويغرف من بئرها ماءً نقياً يسقي به شجرة البرتقال والنعناع، و الدلاح، وشجيرات الطماطم، والخيار .....
ولكن منذ أيام،
صارت عصافير الصباح تغني بنغمة حزينة،
كأن الشمس اختنقت، وكأن التربة بدأت تنسى كيف تهمس بالماء.
صارت عصافير الصباح تغني بنغمة حزينة،
كأن الشمس اختنقت، وكأن التربة بدأت تنسى كيف تهمس بالماء.
خرج سي أحمد، وجبينه يلمع بقطرات العرق الأولى،
فتح الصنبور الصدئ...
فلا قطرة.
حتى صدى الأنبوب بدا كأنما يهمس:
"أنا فارغ."
فتح الصنبور الصدئ...
فلا قطرة.
حتى صدى الأنبوب بدا كأنما يهمس:
"أنا فارغ."
مشى ببطء نحو البئر في آخر الحديقة،
أسقط الدلو،
فصمتت الأرض.
سحبه... فكان خالياً.
لقد هرب الماء من جوف الأرض،
كأن النبع نفسه قد عطش.
أسقط الدلو،
فصمتت الأرض.
سحبه... فكان خالياً.
لقد هرب الماء من جوف الأرض،
كأن النبع نفسه قد عطش.
الجفاف جثم على التراب وعلى القلوب.
أيام تمضي،
والأوراق تذبل كجفون شيخ عاش أكثر مما يجب،
والريح الحارة تنثر غباراً كأنها سهام الزمن،
والجيران يشدّون الرحال إلى المدينة بحثاً عن ماءٍ في زجاجة،
بعضهم دامع، وبعضهم ناقم...
أما هو، فبقي.
والأوراق تذبل كجفون شيخ عاش أكثر مما يجب،
والريح الحارة تنثر غباراً كأنها سهام الزمن،
والجيران يشدّون الرحال إلى المدينة بحثاً عن ماءٍ في زجاجة،
بعضهم دامع، وبعضهم ناقم...
أما هو، فبقي.
في أعماق بيته، خلف ستارة من الخيش،
كان يخفي سرّه:
قبو صغير تحت الأرض،
حفره في شبابه ليخزن فواكه الصيف.
كان يخفي سرّه:
قبو صغير تحت الأرض،
حفره في شبابه ليخزن فواكه الصيف.
جدرانه سميكة،
وهواؤه ناعم كلمسة أمٍ قديمة،
والظلّ فيه يرقص على أنغام الذاكرة.
وهواؤه ناعم كلمسة أمٍ قديمة،
والظلّ فيه يرقص على أنغام الذاكرة.
وهناك، ترقد بهدوء بعض الدلاحات المكورة كالأقمار،
وكمية محترمة من الخيار الأخضر،
وطماطم مكتنزة،
وشبكة من البرتقال تفوح منها رائحة الطفولة.
وكمية محترمة من الخيار الأخضر،
وطماطم مكتنزة،
وشبكة من البرتقال تفوح منها رائحة الطفولة.
كل صباح، كان ينزل إلى هذا البرد المبارك،
يُخرج شريحة دلاحة،
يضعها على صحن ابيض،
يأكلها ببطء، مغمض العينين،
كما يشرب المرء ذكرى.
يُخرج شريحة دلاحة،
يضعها على صحن ابيض،
يأكلها ببطء، مغمض العينين،
كما يشرب المرء ذكرى.
ثم يأخذ نصف خيارة، وحبة طماطم، وبرتقالة.
جسده يرتوي... لكن الأهم أن روحه ظلت مرحة.
جسده يرتوي... لكن الأهم أن روحه ظلت مرحة.
لم يعد بحاجة للماء كي يعيش،
الفواكه أصبحت منبعه،
نبعه الداخلي،
وسرّ بقائه في صحراء النسيان.
الفواكه أصبحت منبعه،
نبعه الداخلي،
وسرّ بقائه في صحراء النسيان.
كان أطفال الحي يزورونه من حين لآخر،
يتساءلون عن هذا العجوز الذي لا يذهب ليجلب ماءً من المدينة.
يتساءلون عن هذا العجوز الذي لا يذهب ليجلب ماءً من المدينة.
— "يا سي أحمد، كيف تعيش بلا صنبور و بلا بئر؟"
يبتسم،
يمرر كفه على رؤوسهم،
ويجيب بنبرة تشبه صلاة:
يمرر كفه على رؤوسهم،
ويجيب بنبرة تشبه صلاة:
— "حين تصمت الأرض، استمعوا إلى الثمرة.
وحين يختبئ الماء، تكلّم من خلال لُبّها.
القلب يعرف كيف يشرب، إن صدّق."
وحين يختبئ الماء، تكلّم من خلال لُبّها.
القلب يعرف كيف يشرب، إن صدّق."
في اليوم الخامس عشر،
لامست وجه الشيخ الهادىء نسمة أكثر رقّة.
السماء لم تعد بيضاء تماماً.
قطرة مطرٍ أولى وقعت على جبينه،
رفع عينيه نحو الأعالي،
أغمض أجفانه،
وشكر الحياة، والخلق، ومخزونه المتواضع من الثمر.
لامست وجه الشيخ الهادىء نسمة أكثر رقّة.
السماء لم تعد بيضاء تماماً.
قطرة مطرٍ أولى وقعت على جبينه،
رفع عينيه نحو الأعالي،
أغمض أجفانه،
وشكر الحياة، والخلق، ومخزونه المتواضع من الثمر.
وفي سكون اللحظة،
كتب هذه الكلمات على صفحات ذاكرته :
كتب هذه الكلمات على صفحات ذاكرته :
> "الماء ذاكرة.
وأحياناً، يختبئ في لحم دلاحة
أو في براءة عصير برتقال
أحبّوا فواكِهكم...
فهي تعرف كيف تنقذكم،
حين تجف الآبار."
وأحياناً، يختبئ في لحم دلاحة
أو في براءة عصير برتقال
أحبّوا فواكِهكم...
فهي تعرف كيف تنقذكم،
حين تجف الآبار."