السبت 20 إبريل 2024
كتاب الرأي

الشرقاوي: إلى السيد العثماني.."مقامُ الأمم... من مشية رؤساء حكوماتها!"

الشرقاوي: إلى السيد العثماني.."مقامُ الأمم... من مشية رؤساء حكوماتها!" مصطفى الشرقاوي
لم ينشأ علم النفس السّياسي ويتطوّر خارج عباءة فرويد منذ الثلاثينات من القرن الماضي لغايات عبيثة أو يصبح مجرّد ترف معرفي. هو اليوم علم قائم بذاته يدرس شخصيات القادة السياسيين ويحلّل تصرّفاتهم، وإنْ لم يجلسوا على أريكة أنيقة أو يزوروا جناحا خاصا في مصحة الاضطرابات، إن لم نقل، الأمراض النفسية. كان المشهد مثيرا للاستغراب والنقد من سائر المغاربة لما أبداه رئيس حكومتهم سعد الدين العثماني في حضرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبيل القمة الروسية الإفريقية في سوتشي الخميس الماضي: مزيج مرتبك من "هرولة"، و"إيماءة خنوع"، و"انحناءة ترنّح"، و"استصغار الذات"، و"شعور بالضعف" في حضرة رمز القوة، بل احتار أيضا في افتعال ابتسامة في غير وقتها أو استجلاب إيماءة رضا من بوتين، وهو يمعن في التعريف بنفسه وببلده بلغة انجليزية. بل قرّر العثماني أيضا أن يزيد في زينه "شويا دلعكر" عندما انطلق، بعد التحية، منتشيا بساقيْن ويديْن تراقص الهواء كطفل علم للتوّ أن والده سيجلب له دراجة يدوية في عيد ميلاده!   
 
تصرّف العثماني وتركيبته النفسانية في هذه اللحظة، على غرار مثيلاتها في مناسبات أخرى خارج المغرب وداخله، يستحضران ثلاثة دلالات رئيسية لاستكمال تحليل هذا الرجل الذي لا يتساوى وزنه السياسي والرمزي لأربعة وثلاثين مليون مغربي مع تصرّفاته المتأرجحة وخفوت لونه الدبلوماسي:
 
أوّلا، يُنبئ سلوك العثماني عن عقدة النقص أو الدونية لديه وفق نظرية ألفريد أدلر Alfred Adler مؤسّس الحركة الأدلرية في السيكولوجيا الكلاسيكية. ويبدو أن دونية العثماني تنمّ عن شعوره بعدم كفاية رغباته في تحقيق نتيجة غير واقعية أو غير قابلة للاستكمال وهي "الحاجة إلى الكمال". وينطوي ارتباكه وحركات جسمه غير المنضبطة على ما يبدو عن الشعور بأنه أقل ممن يقف معه أو يحاوره على الطّرف الآخر. ويعرّف أدلر الصّحة النفسية بأنّها شعور بالترابط البشري والرغبة في تطوير الذات بشكل كامل والمساهمة في رفاهية الآخرين. عندما تكون هذه الصفات متخلفة، يختبر الفرد مشاعر الدونية. وخلف مفهوم "سيكولوجيا الأنا" ego psychology الذي ابتكره أدلر، تضطرب كفتا الميزان بين فقدان الوزن النفسي والسياسي لدى العثماني وتضخم الأنا لدى الطرف الآخر سواء داخل الكرملين، أو الإليزيه، أو القصر الملكي. هو دائما يرتبك و"يُفَلْعِص" حركات جسده بشكل غير إرادي على أمل أن يحظى بأنه "مقبول بما يكفي" أو أنه قريب من نقطة "الكمال" حتى إشعار آخر.
 
ثانيا، يجسّد العثماني الشخص ورئيس الحكومة معا عينة حيّة من عيّنات الحتمية النفسية الصلبة Hard determinism. وهي حتمية تنفصل عن مفهوم السببية وتمتد بعيدا في التحليل النفساني السلوكي. وتقوم نظرية الحتمية النفسانية على إمكانية التواتر بين حدث نفسي معين بسبب حدث نفسي دون تدخل عامل مادي، وهذا ما يستحضر أيضًا فكرة اللاشعور النفسي. ويتمسّك بعض رواد هذه المدرسة السلوكية مثل عالم النفس الأمريكي بوروس سكينرB. F. Skinner بأنّ "حرية الإرادة" تظل سرابا في تفسير الأسباب الحقيقية للسلوك البشري. لذلك، تكاد أن تتطابق صورة العثماني في سوتشي مع صوره الاعتيادية في لقاءات القصر الملكي.
ثالثا، تظهر الدلالة الثالثة عند تقاطع الدلالتين الأولى والثانية، وتدعو لتأمل علاقة العثماني كأحد "المرضي عليهم" حديثا مع المؤسسة السياسية في المغرب، وكيف تشبّع هو بضوابط ثقافة الحكم التقليدي، وتراتبية المقامات والاعتبارات على الطريقة المخزنية. هي تراتبية لا تقوم على حضور الشخصية ناهيك عن قوتها، أو الصلاحية الدستورية لرئيس الحكومة، بقدر ما تنساق خلف سيكولوجيا القوة ومركزية الأنا المخزنية التي تترقب منه أن يجوّف ذاته ويغيّب ظلّه. وجد العثماني نفسه مهزوزا وبنفسية غير راجحة في قمّة سوتشي على غرار حتمية البرتوكول واستصغار الذات عند لقاء الملك أو أحد مستشاريه الأقوياء داخل القصر الملكي.
 
هي "بافلوفية" مخزنية متكرّرة: كلّما حضر رمز القوة، اختفى ظلّ العثماني وكلّ "العثمانيين" في المغرب. وكلما كبر الصف بانتظار مصافحة الملك، ردّد الحجاب ندائهم الملحّ بتقبيل "يد سيدي"، وإنْ تراجعت النبرة عما كانت عليه خلال سنوات حكم الراحل الحسن الثاني. فيسقط من أجساد المصطفين عمودُهم الفقري على طريقة الوزير المبدع في فن الانحناءات الانكشارية طيب الذكر سعيد امزازي.
 
لا غرابة أن يظهر العثماني أمام بوتين بلا ظل، ولا وزن سياسي، ولا رمزية دبلوماسية. قد تتغير الأمكنة وتختلف الأضواء، لكن العثماني وبقية "العثمانيين" يحملون في ثنايا شعورهم الباطني رواسب تلك الحتمية النفسية الصلبة!
 
مصطفى الشرقاوي: أستاذ بجامعة "جورج ميسن" وباحث ومحلل سياسي