الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

سميرة مسرار:القيادة الفاشلة والموت السريري للكفاءات

سميرة مسرار:القيادة الفاشلة والموت السريري للكفاءات سميرة مسرار
إذا كانت القيادة فنا وصنعة وبراعة وموهبة، فبعض الناس يولدون قادة، وبعضهم الآخر يتعلمونها،في حين هناك فئة من الناس لا يمكن أن يملكوها ولا يستطيعون حتى مجرد التفكير في قدرتهم على مزاولتها، وللأسف هذه هي الفئة الأكثر انتشارا في الإدارة المغربية.
وبما أن المسؤول هو قبل كل شيء عبارة عن مجموعة من السلوكات، فتحديد القيادة الفاشلة في الإدارة المغربية يظهر من خلال رصد وتشخيص هذه الظاهرة، كسَنّ سياسة الإبعاد وقلة التواصل والتشكك المدمر للثقة واصطناع الأسباب التافهة لتحطيم نفسية الموظفين والترفع عليهم وإغلاق الباب في وجوههم واللجوء إلى الاستبداد والهيمنة في العمل والحديث بما لا يليق والتنقيص من قيمة الفرد وهدر حقه في المناقشة والضغط عليه وحرمانه من أهم حقوقه وعزله داخل فضاء ضيق ومحاسبته بعقارب الساعة وقهره نفسيا وأخلاقيا وماديا، كل هذا يجعل المسؤول الإداري المتجبر والمتسلط غير قادر على خلق فريق عمل ناجح، مما يسئ بشكل كبير ومباشر للإدارة ويخل بنزاهة تسييرها.
إذا انطلقنا من منظور أن العقل ونفسية الفرد يشتغلان وفق ثنائية الرغبة ونقيضها (la dualité du plaisir et du déplaisir ) ، فإن هذا الموظف الذي تفرض عليه الإدارة طريقة عمل معينة بمنهجية مجحفة تخدم المصالح الشخصية للمسيرين قبل أن تخدم الإدارة نفسها، سيصطدم حتما بصانعي القرار أو يسقط في حالة نفسية مستعصية.
إن الإدارة غير النزيهة والتي يقودها مسير تنعدم فيه أدنى شروط الكفاءة تلعب على عامل التأثير النفسي وتزكية حالات الإحباط والتوتر لدى الموظف لإخفاء عجزها الداخلي في خلق جو مثالي للسير السليم. وحتى يتأتى لها هذا، فإنها تعمد إلى عدم منح الموظف المعلومات الكافية لإنجاح عمله، أو أنها تعطيه معلومات مغلوطة وتعمل جاهدة لتضليله حتى لا تكون له رؤيا واضحة حول المشروع. والنتيجه، أنه سيحس باليأس والإحباط حين يجد نفسه مكبّلا وبدون أدوات شغل، بل ويجد نفسه عرضة للتعنيف المادي أو المعنوي الذي يتم غالبا عبر التقليل من مجهوداته ونعته بعدم القدرة على التركيز والتحليل وغيرها من الملاحظات التي تجعله يشك في تكوينه وصلاحيته وفي كل تجاربه المهنية السابقة. وقد يحصل أن تمارس الإدارة في حقه شتى طرق التهميش فيتم حرمانه من آليات الاشتغال للقضاء عليه تحت طائلة العجز .
إن هذا السلوك الذي يوجد في إدارات كثيرة يسيرها قياديون عديمو الكفاءة يؤثر سلبيا على الموظف الذي يجد نفسه محاصرا ومخنوقا في محاولة يائسة لإنقاذ ذاته. والحمد لله أن نفسية الإنسان تحتوي على ميكانيزمات دفاعيه لحفظ العقل من التشتت والضياع أو ما يسمى بالانفصام. من بينها أن الموظف ــ في بداية أزمته مع القيادية الفاشلة ــ يحاول تهدئة الأمور وهو يعرف أنه مظلوم، فيلجأ إلى التسليم لتحقيق التوازن النفسي لمواجهة نفسه أولا وواقعه العملي ثانيا بما في ذلك زملاؤه في الشغل ومسيروه.
ولكن يحدث أن يجد الموظف نفسه عرضة للتعنيف من جديد مما يسقطه في دوامة البحث عن المتعة في غياب التأطير والتحفيز.
هذا إذا كانت نفسيته ذات بنيان صلب، أما إذا كان مهيأ للإحباط وتراكماته فسيصبح غير منتج خاصة وأن الصورة التي كونها عنه مسؤولوه وحاولوا إقناعه بها بأنه غير قادر على إنجاح عمله، قد تؤدي به إلى الانزلاق في خضم الكآبة والانهيارات العصبية.
إن الأدهى من كل هذا هو أن نفسية الموظف الكئيبة التي تزرعها الإدارة المتسلطة في كيانه الهشّ تنتقل معه إلى الشارع وإلى بيته فيسقطها على من في مستواه أو أكثر أو أقل منه كمحاولة لاواعية منه لإعادة توازنه النفسي، فيجد نفسه بذلك يعيد إنتاج ما تلقاه من عنف.
إن الإدارة المغربية التي تعتمد اليوم على هذه النوعية من المسؤولين لتعيد إنتاج مواطنين متوترين غير مقبلين على الحياة بكل مظاهرها، إذ يعزف الشخص عن الإبداع والعطاء والاجتهاد، بل وينفر من العلاقات الاجتماعية التي تبدأ في إثارة سخطه على نفسه وعلى الناس. ثم إن حالة الاكتئاب التي تتأكد في سلوكه اليومي تجعله يتخوف من كل انتقاد ولا يرى في وسطه إلا وجوها للمنتقدين بسبب الصورة التي ترد عليه يوميا من رؤسائه وتكرس دونيته في ذهنه بحيث يصبح فاقدا لحاسة تقييم الأشياء. إن وضعية كهذه تقتل في الإنسان الرغبة في العمل والاجتهاد وتشل فيه القدرة على التقييم والتقدير لأنه يصبح موضوع تقييم يومي يمارس عليه بكل جرأة وعفوية.
من واجب الإدارة أن تخلق الجو النفسي الملائم للموظف لتمنحه القوة والدرع الواقي لتحمل أعباء المشاغل المنوطة بعاتقه، لا أن تحوله إلى حالة كلينيكية تجعله يخاف من نظرة الآخرين وينغلق على ذاته ويكوّن عن نفسه نظرة سلبية. فهل هكذا نخلق الموظف المنتج الذي يجب أن يقبل على دنيا العمل متفائلا مرحًا؟ وهل هذا هو الموظف الكفؤ الذي ستستند عليه الإدارة لضمان سيرها ؟ وكيف تقبل الإدارة هي نفسها بضم حطام إنسان إلى طاقمها؟
هذا التعامل المتسلط تجاه الفئات الهشة من الموظفين الذين يسقطون تباعا تحت مخالب الإدارات التي يسيرها مسؤولون غير أكفاء، أو ممن يحبون الضغط على موظفيهم، يتضاعف ــ للأسف الشديد ــ ليس مع هذا الصنف من الرجال فقط، بل يكون اكثر حدة وقوة وعنف عند بعض النساء المسؤولات. في قبضتهم جميعا يضيع جيل من الكفاءات بالموت السريري، وتُعدّ قنابل يمكن أن تنفجر في وجه أي كان وفي أي وقت ولأقل سبب.
هؤلاء الإداريون المتسلطون سرقوا كفاءة الموظف، سرقوا سعادة الموظف، وسرقوا منتوج الموظف، فمن سنحاكم ؟
إن هذه السرقة ليست فقط سرقة الزمن الإداري، بل هي سرقة أمن المواطن المغربي وأمن الدولة المغربية بإنتاج جيل من المحطمين والمكتئبين، فلا تسألوا بعد ذلك لمَ كل هذا الغليان والمشرّع المغربي لم يجرّم بعد القتل مع سبق الإصرار لعقول ونفسية الموظفين ولم يحاكم بعدُ المسؤولين الفاشلين.
فمتى سيتم التفكير في معالجة داء التسيير؟ ومتى سيستيقظ المشرّع لمعالجة جريمة القتل الإداري؟ بل متى سيتم القضاء على مثل هذه السلوكات التي تجعل من الإدارة فضاء واسعا لكل أنواع الظلم و الهشاشة بامتياز؟