الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

محمد الشمسي :مسلسل "الماضي لا يموت ".. المحاماة بين الحب المباح والعصبية المهنية

محمد الشمسي :مسلسل "الماضي لا يموت ".. المحاماة بين الحب المباح والعصبية المهنية محمد الشمسي
 أثار مسلسل تلفزيوني غضب عدد من المحامين والمحاميات بمختلف أنحاء هيآت المحامين بالمغرب، و علة الاحتدام  تكمن في بعض من مضمون المسلسل الذي يتطرق من جملة ما يتطرق له في روايته، إلى قضية محام يقدمه المسلسل بطريقة يراها ثلة من أهل البذلة السوداء "تطاولا على مهنتهم "، ويراها مخرج المسلسل عملا فنيا بعيدا عن كل إساءة ...
وقد وصل مدى الشقاق حد تلويح بعض من المحامين باللجوء إلى القضاء للقصاص من المسلسل الذي ينعتونه بتقديم صورة مضرة بالمحامين ، وتناقلت وسائل التواصل الاجتماعي نماذج من عريضة تستعرض إساءات المسلسل للمهنة ، وتدعو القيمين على المهنة إلى التدخل ....
بداية وجب التأكيد على أنه بقدر ما هناك بون شاسع بين قيم الإسلام وسلوكات بعض المسلمين، هناك أيضا ذات البون بين نبل المهنة وقدسيتها ومجدها، وبين بعض الانحرافات المنسوبة لقلة من أهلها على مر التاريخ وفي كل المجتمعات، فمثلما هناك عناصر فاسدة في كل المهن وفي كل القطاعات ، فإنه من الخبل أن نتوقع أن يكون جميع المنتسبين لمهنة المحاماة  أهل عصمة وعفة ، وفي هذه الحالة يبقى سلوك المحامي المنحرف منفصلا عن قيم المحاماة النبيلة، وبالتبعية يتعين الغضب حين ينْصبُّ القدح ضد المحاماة كمهنة، أو ضد المنتسبين لها جُملة، ففي هذه الحالة تكون انفعال المحامين معللا، وأما التركيز على الفاسد من زهور المزهرية ، فهو لا يضر المزهرية في شيء، بقدر ما ينقيها ليبقيها متلألئة تروق الناظرين .
ولا بد من التأكيد كذلك على أن المحاماة وإن كانت أصيلة جليلة رفيعة في كنهها ، فهي كذلك شعبة من شعب الفن ، فالمحامي حين يقبل الدفاع عن مصالح موكله ، ويتخابر معه ، ويتسلم منه الأدلة التي تدعم موقفه ، فهو يقوم بمهام الدفاع بفن وإبداع ، فالمحامي هاهنا يزاوج بين صنعة الحرفي ، ومهارة النحات ، وخطوات الحكيم ، بعلم وشجاعة وصدق وحذر شديد، وسواء أكانت المسطرة كتابية أو شفوية فالمحامي لن يكتفي فيها بخوض رحلة الشتاء والصيف ما بين مكتبه والمحكمة ، بل إن المحامي أو المحامية يزرع الروح في القضية ، بأسلوب وشخصية وثقة وتنظيم، فيحول الملف من مجرد وثائق كان يتأبطها الموكل ، إلى قضية تنضح بالقانون وبالوجاهة وبالصنعة، ومن مجرد مزاعم تدور في خلد الموكل إلى حكم قضائي يضفي الشرعية على مزاعم الموكل  ...
لذلك فالمحامي هو فنان في مهنته ، ومن لا يمارس المحاماة بفن و إتقان وبراعة  ، فهو لا يعدو أن يكون ساعي بريد بين الموكلين والمحاكم ، وبالتبعية فوجود جينات الفن في خلايا ودماء وعروق المحاماة ، يجعل المحامين يربئون بأنفسهم على ممارسة أي ضغط أو تضييق على أهل الفن الذين هم في نهاية الأمر جزء من الأسرة الواحدة ، ولن يقبل التاريخ أن يسجل بين طياته أن عددا من المحامين استفزهم عمل تلفزيوني يناقش حالة معزولة لمحام ، فهبوا يرغبون في مقاضاة العمل التلفزيوني ، وكأني في رِدَّة من رِدَّات المجتمع المصري بعد الثالث من  يوليوز 2013 المشؤوم ، حيث صارت الأنفاس والحركات والإبداعات تخضع للإحصاء والتعليب والرقابة ، وبات الجنرالات فوق قرارات القضاة بحكم الدستور .
فالمحاماة هي الأخت الشقيقة الكبرى لحرية التعبير ، و الفن الراقي المسؤول بكل أشكاله هو مكبر صوت حرية التعبير ، لذلك وجدت في مقاضاة عمل تلفزيوني شكلا من أشكال إكراه وقهر إبداع ، بما سيمنح للألسن الطويلة غير المسئولة مساحات لرشق المحامين والمحاميات بمزيد من الحجارة المسمومة القائمة على حقد غير مبرر ، والترويج للأباطيل ، ووضع كل المحامين في سلة واحدة ، متناسين تضحيات أسرة الدفاع بوقتها وصحتها في نصرة المظلومين ، وأحيانا كثيرة تطوعا ، وبفخر وليس بمنِّ  .
ولعل أكثر ما شدني في هذا النقاش الذي نريده عابرا وصحيا ، وألا يقدم المحامين على أنهم حاملو مقص الرقابة، ما شدني هو ظروف ميلاد  تلك العريضة المشبوهة ، فإن كان في الأمر اجتهاد شخصي ناجم عن جرعة زائدة في حب المهنة والغيرة عليها ، أمكن قبول ذلك مع وجوب ترويض هذا الحب ، لكن إن كان خلف الكواليس من استدرجوا عددا من المحامين واستفزوهم بتلك العريضة لمنح مسلسلهم إشعاعا وشهرة ، فندعو المحامين والمحاميات إلى إعمال الحكمة والعقل ، فَلَأَنْ يسجل التاريخ للمحامين أنهم غفروا لعمل فني أساء لهم ، خير من أن يسجل التاريخ عليهم أنهم انتصبوا ضد عمل فني ، أو أنهم خنقوا مسلسلا أو شريطا أو قاضوا جريدة أو تلفزة أو إذاعة ...
وختاما فالحب مطلوب، والعصبية منبوذة، سواء أكانت قبلية أو طائفية أو مذهبية، وحتى مهنية أو رياضية، لأن العصبية تغتال الحب، وتعمي البصر والبصيرة، وتزرع بدلا عن ذلك بذور الحقد والكراهية...
                                                   محمد الشمسي، محام بهيئة المحامين بالدارالبيضاء