الخميس 25 إبريل 2024
فن وثقافة

تاريخ وحضارة : "قوافي الهضرة ونقايم" اللسان المراكشي الدارج ( الحلقة 2)

تاريخ وحضارة : "قوافي الهضرة ونقايم" اللسان المراكشي الدارج ( الحلقة 2) من الحافلات الأولى لشركة CTM والتي أمنت النقل بين مدينتي مراكش والدار البيضاء

بدون منازع حققت صفحة " مراكش مدينة الألف سنة " التي أحدثها عاشق مدينة سبعة رجال ، الأستاذ "مراد الناصري" سنة 2017 ، بموقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك، أهدافها المتعلقة بالنبش في ذاكرة المدينة الأسطورة ، ونفض الغبار عن تراثها العظيم بالكتابة والصورة، وفتح أبواب شخوصها  و معالمها العمرانية والتاريخية بمفاتيح الحضارة الإنسانية. " لقد راهنت على  إبراز أهمية استثمار مواقع التواصل الاجتماعي في الجانب الإيجابي، وتمرير رسائل مهمة للجيل الحالي على جميع المستويات، فضلا عن مشاركة ساكنة مدينة الحمراء عشقهم لحضارة مراكش..." يؤكد مراد الناصري.

فعلا إن المبحر في صفحة "مراكش مدينة الألف سنة" يجدها تجربة رائدة في استثمار موقع الفيسبوك إيجابيا، حيث نعتبر أنها جديرة بالمتابعة والتعميم والمواكبة الإعلامية، وتقاسم مواضيعها النادرة مع قراء جريدة " أنفاس بريس"، لتعميم الفائدة طيلة شهر رمضان الأبرك

مدخل :

"اللغة من أهم المحددات الثقافية للأمم والمجتمعات. كما أن تعدد الطبقات الاجتماعية وتزاوج الاجتماعي بالسياسي يفسر عراقة ورسوخ التقاليد الشفوية في المدن العتيقة؛ ويمتاز اللسان المراكشي  بمجموعة من الخصوصيات في قواميس (الصواب) و(النقايم) و(قوافي الهضرة)... كما استطاع اللسان المراكشي الدارج التعبير عن معانٍ ودلالات عميقة عبر أقل عدد ممكن من الكلمات، بل أحيانا عبر كلمة واحدة أو كلمتين..."

تعتبر اللغة إلى جانب الدين والعادات والتقاليد من أهم المحددات الثقافية لأي أمة أو مجتمع، بل إن علماء الأنثروبولوجيا يضعونها على رأس هذه المحددات نظرا لكون هذه الأخيرة تتسول اللغة كوسيلة وأداة للتخاطب والتفاعل سواء بين الأفراد أو المجتمعات...

في دراسة الحالة المغربية، يلاحظ أن أهل المدن التي شكلت عاصمة للمملكة/الإمبراطورية خلال حقبة زمنية معينة، يتمتع أغلبهم بتقاليد شفوية راسخة تنتقل جيلا عن جيل؛ وهي حالة "المدن العتيقة" مثل مراكش وفاس ومكناس والرباط وغيرها، ويفسر المدققون والباحثون بين ثنايا التاريخ هذه الظاهرة بتعدد الطبقات والفئات الاجتماعية داخل هذه المدن، إضافة إلى عامل آخر مهم هو تزاوج ما هو سياسي بما هو اجتماعي واقتصادي وثقافي لخلق هذا التنوع في التراث الشفوي للمدن العريقة...

تعدد هذه الطبقات السياسية/الاجتماعية ينطلق من وجود رأس الدولة ألا وهو السلطان أو الملك الذي تحيط به بطانة لكل فرع منها امتدادات وتوغل في المجتمع، ثم يتم الانتقال إلى فئة الوزراء ورجالات الدولة الكبار مثل الحجاب و"قايد المشور" وغيرهم، ثم باقي الجنود والعسس والموظفين الإداريين والمدنيين ذوي الرتب المتوسطة وما دونها، وذلك قبل الخروج من محيط البلاط نحو المجتمع العادي الذي يتكون من فئات تقليدية تبدأ بالطبقتين الشعبية والمتوسطة اللتان تشكلان السواد الأعظم من النسيج المجتمعي، ثم طبقة الصفوة والنخبة (المادية) المشكلة من كبار التجار والحرفيين وملاك الأراضي أو الفلاحين...

ضرورة ووجوب مخاطبة كل هذه الطبقات والفئات الاجتماعية المتعددة فرض وحتّم على "رجل الشارع" العادي تطوير ملكاته اللغوية ليخاطب كل منها بما يليق به مقامه؛ وهو ما يفسر إلى حد بعيد رسوخ هذه التقاليد الشفوية داخل المدن العريقة وانتقال قواميس "الصواب" و"قوافي الهضور" جيلا بعد جيل كما أسلفنا...

كما كان من تجليات هذه الظاهرة وجود قواميس لغوية خاصة Des jargons بالمجتمعات المصغرة داخل عالم الحرف وغيرها، وهي مصطلحات ومفردات قد لا يدركها إلا أهل التخصص ومن عاشرهم عن قرب أو سمع منهم، ومن تمظهراتها أيضا أن السيرورة التاريخية للسان المراكشي الدارج قد تطورت لتبلغ درجة القدرة على التعبير عن معانٍ ودلالات عميقة بأقل قدر ممكن من الكلمات بل وأحيانا بمجرد كلمة واحدة فقط لا غير!!

فعلى سبيل المثال ـ لا الحصر ـ اعتاد أهل مراكش أن يقدموا لغة التحدي والوعيد بكلمة "حرّبوش"، أما "أخايت"، فهي دالة على الاستصغار والتقليل وعدم المبالاة بأمر أو شخص معين، فيما كلمة "خزيت" مؤشر على التذمر وعدم الرضا، ومثلها "مشّي" التي يعبر بها القائل عن عدم الاهتمام أو عدم الرغبة في الخوض في شأن معين، وقد تقال كذلك على سبيل المزاح...

العديد من المعاني والدلالات يمكن التعبير عنها أيضا بكلمتين وليس مجرد كلمة واحدة؛ فمثلا عبارة "ربنا خلقتنا" تحيل على الافتقار والإملاق وقلة الزاد والعَرَض، أما "بيه فيه"، فتقال دلالة على السرعة وعدم تضييع الوقت واقتحام الأمور دون مقدمات أو "بلا إحم ولا دستور" كما يقول الأشقاء في أرض الكنانة، بينما "خيطي بيطي" تعبر على نسق عال وزائد عن الحد والمعدل المألوف والاعتيادي لزيارة أو التردد على مكان أو شخص معين، وفي النهاية نختم بتعبير لطيف يقال عن الشخص شديد الحماس لدرجة الإفراط مما قد يسبب له مشاكل أو سوء فهم من لدن المتلقي الذي قد لا يستسيغ هذا الحماس المبالغ فيه أو الذي هو في غير محله ليقال عن صاحبه إن "فيه حبوبو تايدبو".