الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

سعيد الكحل: لماذا فشلت "ثورات الربيع العربي"؟           

سعيد الكحل: لماذا فشلت "ثورات الربيع العربي"؟            سعيد الكحل

بانطلاق الموجة الثانية لما بات يعرف "بالربيع العربي" بانتفاضة الشعبين الجزائري والسوداني ونجاحهما في إزاحة رأسي النظام دون دمار وسفك الدماء، نجد أنفسنا أمام سؤال جوهري: لماذا فشلت ثورات "الربيع العربي" في إقامة أنظمة ديمقراطية مثلما نجت في إسقاط أنظمة استبدادية في ظرف زمني قياسي؟ من المفروض أن الشعوب التي عانت طويلا ولعقود ، بعد حصولها على الاستقلال، من القهر والاستبداد أن تكون راكمت وعيا حقيقيا بواقعها السياسي والاجتماعي وبما تملكه من عناصر القوة ونقاط الضعف التي جعلتها رهينة بيد الاستبداد . فالواقع المادي عادة هو الذي يحدد وعي الأفراد والمجتمع ويخلق لديهم الاستعداد لتغييره. إلا أن تجربة الشعوب العربية التي ثارت ضد أنظمتها الحاكمة وأسقطتها لم تفلح في بناء أنظمة سياسية ديمقراطية تعبر عن تطلعات الشعوب إلى الحرية والكرامة، بل إنها أعادت البلاد والعباد إلى مرحلة ما قبل ظهور الدولة حيث طغت التنظيمات الطائفية والمذهبية والإرهابية وهيمنت القبيلة بأعرافها وقوانينها الداخلية، وحل الولاء للطائفة محل الولاء للدولة والوطن. ثماني سنوات هي مدة كافية لتقييم نتائج هذه "الثورات" والمآلات التي انتهت إليها. فما الذي أفشل هذه الثورات؟ يمكن الوقوف عند عاملين رئيسيين هما:

1/ العامل الثقافي ويمكن النظر إليه من مستويين:

أ ــ ضعف التشبع بالقيم الديمقراطية والمواطنة. فالشعوب التي ثارت ضد أنظمتها لم تكن مقتنعة بضرورة بناء الدولة الديمقراطية التي تتعالى على الطائفية والمذهبية والأديان، وفي نفس الوقت تضمن لجميع المواطنين حقوقهم وحرياتهم بغض النظر عن عقائدهم ومذاهبهم. لم يرق بعد، وعي الشعوب إلى أن الوطن هو الجامع وليس الدين أو المذهب أو العرق. لهذا، وبمجرد سقوط الأنظمة، طغت الانتماءات المذهبية والطائفية والعشائرية على الوعي العام مما أدى إلى حدة التطاحن الداخلي بكل مستوياته بين الطوائف والعشائر. فما كان يهمّ تلك الشعوب هو إسقاط الأنظمة دون أن تمتلك رؤية واضحة وخارطة طريق لما بعد السقوط. إن الوعي السياسي الحقيقي يقتضي من هذه الشعوب أن تدرك أهمية الممارسة الديمقراطية في إرساء مؤسسات دستورية غير مرتبطة بالأحزاب والتنظيمات الطائفية؛ ومن ثم تطالب الأحزابَ بالاتفاق على برنامج انتخابي موحد وتقديم مرشح مشترك لمواجهة خصوم الديمقراطية وأعدائها. لكن هذا لم يحدث، فكان الفوز للإسلاميين.

ب ــ طغيان التصور الديني على ما عداه. فغالبية الشعوب تستجيب تلقائيا للخطاب الديني مما يجعلها ضحيةً  سهلة الانقياد والتحكم والطاعة. وهذا الذي يفسر فوز الأحزاب الدينية في الانتخابات (تونس، مصر) فيما احتضنت شعوب أخرى التنظيمات المتطرفة والطائفية (ليبيا، سوريا، اليمن ). ففي اللاوعي الجمعي للشعوب الإسلامية أن التشريعات الدينية هي الكفيلة بضمان العدل وتحقيق التقدم. ومهما كانت قوة الخطاب الحداثي فلن يُقنع الغالبية بأن الدولة الديمقراطية وتشريعاتها المدنية ومؤسساتها الدستورية هي أساس التقدم والكرامة والحرية. فعلى مدى عقود وهذه الشعوب تخضع للشحن الإيديولوجي والفقهي جعلها مسلوبة الفكر والإرادة لدرجة أنها تتمثل الدولة الإسلامية ونظام الخلافة أرقى النظم السياسية.  

2 / العامل الخارجي ويتمثل في تدخل القوى الإقليمية والدولية في دعم الاقتتال الداخلي بين الطوائف والمذاهب وفتح المجال لتنقل العناصر الإرهابية من كل بقاع العالم لإجهاض الثورات ووقف الزحف "الربيعي" على دولها ومصالحها. وما كان لهذه القوى الخارجية أن تفلح في إذكاء الانقسامات وتغذية الاقتتال الداخلي لولا انعدام الوعي بأهمية الوطن الجامع وفعالية الآلية الديمقراطية في تدبير الاختلاف.  

هل فشل الإسلام السياسي شرط لبناء الديمقراطية ؟

تبدو ثورة الشعبين في الجزائر والسودان أكثر نضجا وتماسكا لحد الآن في مطالبها ومواقفها من النظام ورموزه . وكلما حافظ الشعبان على التماسك الداخلي بين المواطنين إلا وتعذر على القوى الأجنبية إحداث الاختراقات أيا كانت طبيعتها. وما تسمح به الموجة الثانية "للربيع العربي" من ملاحظات يمكن تركيزها في التالي:

أ ــ فقدان التنظيمات الدينية زخمها وبريق خطابها بعد المآسي التي تسببت فيها للشعبين السوداني والجزائري. فهذان الشعبان ينطلقان من تجربتهما الخاصة ومعاناتهما بسبب هذه التنظيمات الدينية التي تجعل السياسة والحكم فرعا من الشريعة. فالشعب السوداني عانى طويلا من الاستبداد باسم الدين مع النميري ثم البشير، ولا يمكنه فتح المجال لعودة التنظيمات الدينية للسلطة من جديد .وكذلك هو الحال بالنسبة للشعب الجزائري الذي فتك به إرهاب جبهة الإنقاذ وأذرعها المسلحة .

ب ــ الاستفادة من أخطاء الموجة الأولى "للربيع العربي" بحيث حافظت الموجة الثانية على سلميتها ووحدة قواها الحية وتمييزها بين النظام السياسي وبين الدولة ومؤسساتها. فمطالبتها بإسقاط النظام غير مشروطة بحل مؤسسات الدولة وهياكلها؛ كما أن العداء للنظام لا يعني العداء للدولة .

إن نجاح الشعبين الجزائري والسوداني في إسقاط النظامين المستبدين وإقامة نظام ديمقراطي يضمن الحقوق والكرامة لجميع المواطنين سيحفز شعوب المنطقة على تجاوز عوامل التخويف من المصير الليبي والسوري، ويحرضها على ممارسة مزيد من الضغوط على أنظمة الاستبداد التي تجثم على صدورها قصد دمقرطتها أو إزاحتها.