وسط ضجيجٍ وعجيجٍ تتعالى من حين لأخر، أصواتٌ تنادي بطرد المسلمين من أمريكا و أوروبا واليوم حتى جزيرة نيوزيلندا الصغيرة، والتضييقِ عليهم في غير مكان من عالمنا المتحضر؛ بحجة مكافحةِ الإرهاب، وأن المسلمين هم أساسُه، وسببُه، ولا ننكر أفعالًا نادرة هنا أو هناك تُسيء إلى الإسلام وإلى منتسبِيه، إلا أن سياسةَ التعميم التي يَنتهجُها الغرب تُظهر مدى العنصريَّة التي يتعاملون بها مع الإسلام والمسلمين، والذي لا ينظر إلى الإسلام بعينِ الحيادية والإنصاف ليتأكَّد له أنه دينٌ لا يعرف العنصريَّة مطلقًا، بل هو دين يدعو إلى التعايشِ مع جميع الناس وشتَّى الأمم على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم.
وحتى في عالمنا المتحضر في قرنه الواحد والعشرين ليس بمنأًى عن هذه العصبية المَقيتة، والعنصرية الفجَّة، التي تقوم على أساسٍ من العِرق أو الدِّين أو اللون، والأحداث شاهدة على ذلك، فما حدث في نيوزيلندا أساسه العنصرية، وما يحدثُ في فلسطين أساسُه العنصرية أيضا، وما يحدث في بورما ضدَّ المسلمين أساسُه العنصريَّة، وما حدث في البُوسنة والهِرْسك في التسعينيَّات من القرن الماضي أساسه العنصرية ضد المسلمين..
و العنصريَّة - كما هي معرفة حتى في القواميس الغربية - تعني التَّفْرقةُ والتمييزُ في المعاملة بين الناس على أساس من الجنس، أو اللَّون، أو اللغة، أو الدِّين، أو حتى المستوى الاجتماعي والطَّبَقي، هذه العنصريَّة متجذِّرة في البشرية منذ القِدم، وإذا قلَّبت صفحات الماضي، واطَّلعت على الموروثات الثقافيَّة لهذه البشرية، لوجدْتَ نماذجَ صارخةً لهذه العنصرية، و ما الاستعمار الفرنسي خصوصا و الغربي عموما عن المبصرين ببعيد..
إذ رغم مرور عشرات السنين على حقب الاستعمار الغربي في القرن الماضي لدول العالم الثالث، إلا أن ذاكرة التاريخ لا تزال شاهدة على ممارسات فرنسا الاستعمارية في أفريقيا. فخلال تلك الحقبة السوداء من تاريخ البشرية استغلت فرنسا شعوبا، ونهبت ثرواتها ومازالت، وارتكبت مجازر يندى لها الجبين ومازالت آثارها متفشية عبر الأجيال، خاصة في ما يخص تجاربها النووية في الصحراء الكبرى، فضلا عن ضلوعها في تجارة الرق في إفريقيا السوداء، وتنصيب بعض عبيدها على رقاب الشعوب لكي تستمر في نهب الخيرات بالوكالة.
إذ لا ننسى أنه عقب إطلاق "أنشطتها" الاستعمارية، عام 1524، أسست فرنسا حكمها الاستعماري في عشرين دولة بين شمالي وغربي قارة أفريقيا ناهيك عن أطماعها في القارة الأسيوية، وعلى مدار قرابة ثلاثة قرون، أخضعت 35 بالمائة من مناطق القارة السمراء للسيطرة الفرنسية الاستعمارية، فاستخدمت فرنسا دولا أفريقية برمتها، مثل السينغال وساحل العاج وبنين، كمراكز لتجارة العبيد، إضافة إلى استغلال ونهب موارد وخيرات شعوب المنطقة.
واستمرت الفترة الاستعمارية الفرنسية في مختلف المناطق الأفريقية حوالي خمسة قرون، و امتدت إلى يوم الناس، هذا لكن بوجه آخر وبواسطة عملائها، الذين نصبتهم على رقاب الشعوب، ليمارسوا إبادة ثقافية في صفوف الشباب، بالمسخ والفسخ لقيم وثوابت الشعوب المسلمة، بتغيير معالم دينية و تاريخية متوارثة أبا عن جد.
لم تكتفِ فرنسا بتلك الممارسات الاستعمارية البغيضة، إذا فرضت حظرا على الوصول إلى الأرشيف الذي يوثّق لتلك الجرائم الجماعية.
ومازالت المحكمة الدستورية العليا بفرنسا، ترفض المرات تلو المرات طلبات قدمها باحثون وهيئات دولية، للوصول إلى الوثائق المتعلقة بفترة وقوع مجازر وتجارب نووية وتصفية عرقية، إبان الاستعمار الماكر، علما أنها تتبجح اليوم بأنها بلاد وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص في ديباجتها الأولى على "تأكيد الإيمان بحقوق الإنسان الأساسية، وبكرامة الفرد وقدرة الشخص البشري"، وتشجيع "الاحترام العالمي ومراعاة الحقوق والحريات الأساسية للجميع دون تمييز على أساس العرق، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين".
والذي نراه في العالم من توحش، وهمجية، وقتل أبرياء، وتهديم منشآت، هذه هي العنصرية بعينها، فالعنصرية اليوم ليست فكرة أو وجهة نظر، إنما هي جريمة تامة الأركان. وفضحا لهذه الجريمة البغيضة، وتنويرا للرأي، قامت جاليتنا المسلمة في بلجيكا يوم أمس السبت 13 إبريل 2019 بمناسبة "اليوم العالمي للقضاء على التمييز العنصري"، بمبادرة فريدة من نوعها، لتقول للمجتمع الأوروبي "لا للعنصرية ضد الإسلام والمسلمين"، وهي فعالية نظمها الاتحاد الإسلامي في العاصمة بروكسل ومدن "أنتويرب" و"شارلروا" و"جنت" و"لييج" و"نامور"، و هي كبرى مدن بلجيكا. إذ وزع عشرات الشبان من أبنائنا وبناتنا، ورودا ومنشورات للتعريف بالدين الاسلامي في فعالية تحت عنوان "أهلا، أنا مسلم"
«Bonjour, je suis musulman»
و قد تواصل عشرات البنين والبنات المسلمين وجها لوجه بلغة راقية وأدب جم مع عشرات الآلاف من المارة رجالا ونساء لتبليغ هذه الدعوة الإسلامية الأخوية السلمية الرمزية لجيرانهم ورفقائهم في الشارع والسوق والساحات ومحطات الركاب. إذ كما أوضح مسؤول في الاتحاد الإسلامي أن الهدف من الفعالية هو "مواجهة أصناف العنصرية والأحكام المسبقة والنزعات الوهمية المعادية للإسلام والمسلمين".
يشار إلى أن هذه المبادرة ليست جديدة في الغرب التي تقوم بها جاليتنا ضد عنصريي ومنظري الإسلاموفوبيا في أوروبا، والتي تغذيها أحزاب وشخصيات متطرفة متسترة بشعارات التخويف من الإرهاب والتحذير من الإسلام السياسي، إذ نظمت أنشطة مماثلة أقيمت في ألمانيا والنمسا وسويسرا وهولندا وبلجيكا وفرنسا والدنمارك، والسويد، والنرويج، وإيطاليا، واستراليا، وكندا، في الأشهر والسنوات الماضية.
والمبادرة هذه تقوم بها جاليتنا بمناسبة "اليوم العالمي للقضاء على التمييز العنصري" ومناسبات أخرى كاليوم العالمي للجيران، واليوم العالمي لحقوق الإنسان واليوم العالمي للمهاجرين، وعبر موائد الإفطار في رمضان وغيرها من المناسبات والفرص المتاحة.. وقصد كسر هذه التصورات الخاطئة عن الإسلام ومبادئه السمحة، تقوم جاليتنا من حين لأخر بدعوة المواطنين و الجيران للسلم والأخوة من خلال توزيع الورود و الحلويات والمنشورات التعريفية بسماحة الدين، من خلال منصات تقام في الساحات العمومية والشوارع و في بهو المساجد بمناسبة أسبوع الأديان في شهر نوفمبر من كل سنة..
ود و سلام شكر لأصحاب هذه المبادرات الطبية الجديدة و المتجددة، وجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين كل خير، والله ولي التوفيق..