إنني أشعر بالألم وسط هذه الموجة العارمة من العبث والإنحطاط التي تؤكد تأخرنا التاريخي وفقدان البوصلة و المعنى. كل يوم يحمل إلينا المزيد من المعاناة والشعور بالعجز والقرف.
الفتاة القاصر التي اغتصبت داخل حافلة نقل مدني وقبلها أمينة الفيلالي التي وضعت حدا لحياتها بعد تزويجها بمغتصبها وأطفال وطفلات الشوارع وكل البؤساء الذين لم تعد لهم القدرة حتى على الاستغاتة أمام اللامبالاة و تدني الحس التضامني بعدما انهارت منظومة القيم. فلا نستغرب أمام انتصار قانون الغاب و عندما تتحرك الضباع المفترسة لتسطاد الفرائس الجريحة الأكثر ضعفا، وجدوها فتاة قاصر و من دوي الاحتياجات الخاصة! كم من مأسي طبعنا معها و قصص مروعة تناسيناها، و كأنها أفلام خيالية، لكثيرات عانين ويعانين في صمت بتواطئ مجتمع بتريكي متخلف تسوده الامبالاة ويؤطره الجهل المقدس والممأسس ولا يتحمل فيه المسؤولون مسؤولياتهم.
قضايا الاغتصاب ومسلسلاتها المقرفة و العنف بكل ألوانه أصبحت تمارس في واضحة النهار، بتواطؤ البشر حتى لا نصفهم بالمواطنين، حيث المواطنة تفترض التحلي بالحد الأدنى من القيم و المبادئ التي تجعل الفرد يتدخل لحماية الأخر علما بأن القانون يعاقب على عدم تقديم العون لشخص معرض للخطر، إن تراجع الحس المواطناتي و انتشار العنف لا يشكل إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد العائم تحت الماء و الذي يوشك مركب الوطن أن يصطدم به.
أمام هذه الأوضاع المأساوية التي تجاوزت الحدود لم يعد يكفي تنديد المجتمع المدني و الجمعيات النسائية و الحقوقية، ولا التعبير عن الاستياء أو حتى الغضب، عبر الفضاء الأزرق الذي حوله البعض إلى فضاء لتفريغ الكبت ونشر بؤس يعري على حقيقة الاستثناء المغربي والجبن النابع عن تخلفنا الحضاري المبين، بل يفترض في المجتمع الغاضب الانتقال من ردة الفعل إلى الفعل من أجل مواجهة الداء بشكل جدري ووضع حد لمعاناة بؤساء وطني ولكي يتحقق أخيرا التغيير المنشود تحث عنوان الكرامة الانسانية و العدالة الاجتماعية.
المعالجة يجب أن تكون شاملة لأسباب ومسببات ظاهرة البؤساء و ضمنها الشباب العنيف الذي يعيش "خارج التغطية" والإسراع بوضع استراتيجية متكاملة لإيقاف النزيف. نزيف الفقر و التهميش والإقصاء، نزيف الأميات، الأبجدية و القانونية والأخلاقية وحتى الدينية في زمن الجهل المقدس والردة الممأسسة من مدرسة تم إفشالها و إعلام متحكم فيه يخدم "تكليخ الشعب وترسيخ "الطاعة العمياء" والخنوع والجمود، نزيف الأوضاع الإجتماعية المتأزمة من جراء الريع ومركزة الثروة في أيادي قليلة و اتساع الفوارق وغياب التوزيع العادل للثروة ونزيف الافلات من العقاب والظلم والحكرة، كما يقول المثل:" "Ne méprisez pas le peuple,il devient méprisable"
ترجمة تقريبية " احتقار الشعب يدفعه أن يصبح "حقيرا" و نحن نعرف أن العنف يولد عنفا مضاضا.
ماذا ننتظر من مجتمع البؤساء عندما تفتقد القدوة و النموذج و شروط إحقاق الحقوق و يخرق القانون؟
و ماذا ننتظر عندما لا تعتبر الدولة أن التعليم أولى أولويات التنمية وأنه يجب أن يتاح للجميع و بالجودة الكافية؟
وماذا ننتظر عندما يحل الإفلات من العقاب محل المساواة أمام القانون و إرساء أسس دولة الحق و القانون؟
وماذا ننتظر عندما تبقى قضايا الاعتداء بدون جزاء و الأبرياء وراء القضبان و المجرمون ينعمون بالحرية؟
وماذا ننتظر عندما يتم احتكار الثروة وتتسع دائرة الفقرو معها الشعور بالحكرة و الإهانة و الاحتقار؟
وماذا ننتظر عندما تغتفر جرائم أبناء دوي القرب و الجاه و المال بينما لا ينصف دوي الاحتياجات الخاصة؟
وماذا ننتظر عندما لا نعي بأن اقتسام السلم و الأمن يبدأ باقتسام الثروة التي أساسها اقتسام العلم و المعرفة؟
وماذا ننتظر عندما نسمح باعتبار المرأة عورة ولا ننشر ثقافة المساواة و الإخاء و الاحترام بين بني البشر؟
وماذا ننتظر عندما يكون مصيرنا أن نعنف وأن نسجن إذا تجرأنا و طالبنا سلميا بحقوقنا؟
من المسؤول و هل من إمكانية لوضع حد لهذا التقهقر الذي أوصلنا إلى الحضيض. و لمذا نتراجع عوض أن نتقدم؟
مسؤولونا يواجهون الاحتجاجات الشعبية السلمية، بطريقة تشبه "الحروب الاستباقية" لإسكات كل من خولت له نفسه المطالبة بالحقوق مستقبلا، غير مكترثين بغبن الرعايا الذين يتطلعون للمواطنة والكرامة. مسؤولون يسخّرون مؤسسات الدولة لخدمة مصالحهم، لا يعون خطورة الأوضاع التي تنذر بالانفجار. مسؤولون مستبدون مادام الإفلات من العقاب و عدم ربط المسؤولية بالمحاسبة يشكل القاعدة التي يبنون عليها كينونتهم. مسؤولون يتسترون على الفساد المستشري ويجعلون الشعب يفقد الثقة في الجدوى من المشاركة السياسية كي لا يتغير شيء. مسؤولون يطبقون سياسات التقشف التي تؤدي إلى تراجع الخدمات العمومية و اتساع دائرة الفقر و التهميش و الحكرة. مسؤولون يؤجلون الإصلاحات الأساسية و في مقدمتها إصلاح منظومة العدالة، ومن تم فهم مسؤولون عن ظاهرة "قضاء الشارع" و "عنف الشارع" و التسيب والفوضى و غياب الأمن و تهديد السلم المجتمعي.
مثقفونا جلهم متخلف عن الركب و عما يعرفه العالم من تقلبات وتأثيراتها علينا، غير مسموعين بالشكل الكافي و بالتالي غير قادرين على لعب دور التنوير والتأطير لتغيير المجتمع. بعضهم استقال وآخرون يحابون اليمين واليسار والعلماني والمتطرف ويزيدون في ضبابية الأوضاع، وآخرون مزوّرين، بفتح وكسر الواو، تحولوا إلى ناطقين رسميين، بلا ضمير، يبررون ما لا يمكن تبريره و يخدعون الرأي العام بدون خجل.
علماؤنا لا يجرؤ الكثير منهم على التدخل والجهر بالحقيقة في ما يقع لا في الداخل ولا في المحيط، وعدد منهم يتدخلون عند الطلب ويساهمون بقدر وافر في أدلجة الدين،عوض القراءة التنويرية المتصالحة مع العصر وآخرون، عابري الأوطان، أصبحوا خبراء في تخدير عقول الشباب وغسل الأدمغة يصنعون التطرف والفكر التكفيري والعنف ويناهضون الحداثة والعقلانية ويعتبرون المرأة "عورة" و كائنا ناقصا يجب أن يظل تحت الوصاية، وهم بذلك يساهمون في انتشار مشروع "الفوضى الهدامة" الذي خططت له دوائر الإمبريالية و الصهيونية حفاظا على مصالحها الجيواستراتيجية والاقتصادية، والذي بداخله حدد مصيرنا بتفكيك أوصال أوطاننا وضرب سيادتنا الوطنية و تكريس تبعيتنا وبذلك استمرار استغلالنا وتخلفنا. من هنا نستحظر المخطط الميكيافيلي الذي سمح بتطبيق وصفة غزو الفكر الظلامي لجامعاتنا و مدارسنا ومناهجنا وبرامجنا وحتى مساجدنا، وعرقلة عجلة تقدمنا، وخلق معارضة للمعارضة التقدمية في بلادنا كبلت إمكانية تقدم وتطور مدرستنا وجامعتنا العموميتين على مستوى الكم والكيف وأدت إلى تهميش البحث العلمي والباحثين وضيعت علينا فرصة الانعتاق وإمكانية تحرر الفرد وتسليحه بالقيم الإنسانية الرفيعة وبالمعارف و الثقافة، بشتى ألوانها و مشاربها، وبالحس النقدي والمواطناتي كمدخل للسمو بالبشر ليستكملوا انسانيتهم، والتي بدونها لا أمن ولا استقرار. وهكذا اكتملت وصفة صناعة "الوحوش البشرية" بتواطؤ الاستبداد والرجعية وحصلت الردة عوض النهضة وانتشر البؤساء المنسيون والمعنفون في كل مكان ينشرون العنف والرعب والخراب كمن لم يعد له شيء يخسره وأصبحوا غرباء ضائعون في وطنهم.
كيف لم ترتفع الأصوات أمام تدمير عقول شبابنا وتخريب مستقبلهم بشتى أنواع المخدرات، الكتب المتشددة المحفوظة عن ظهر قلب، والجرع السامة المتناولة و المحقونة التي صارت تباع عند أبواب المدارس و التي أدت بالعديد من الأطفال و اليافعين إلى الإدمان و الإنقطاع عن الدراسة و ضياع مستقبلهم، و لم تقدم حلول لوضع حد لهذه الظاهرة الخطيرة، و بقي الأفق مغلق بالنسبة لأغلبية الشباب إلا قلة من المحظوظين من أبناء أصحاب الأيادي الطويلة.
كيف أصبحت بلادنا تصدر التطرف عبر العالم، بعدما تم استدراج شباب، لم يعي بعد معنى الحياة، لخيار واحد هو خيار الموت. و كيف كما قال قائل " نأكل أبناءنا الذين يموتون غرقا و هم يمتطون قوارب الموت لينتهوا في بطن الحوت"،هربا من الفقر و كيف لم نعتني بمن لم يجد سبيلا للهجرة و تركناه ينظم إلى أفواج البؤساء يعاني من العنف و يمارسه. و كيف أصبحت سجوننا حاظنة للعنف و لصناعة التطرف و الإرهاب.
أين نحن من معركة تأهيل الدولة و الشعب، عبرإرساء أسس دولة الحق والقانون والمساواة والمواطنة من أجل التأهب لرفع التحديات المستقبلية وكسب الرهانات وتجنب الأخطار وتحقيق نهضتنا المؤجلة و توفير شروط العيش الكريم لشبابنا.
و كيف لم يحصل الوعي بضرورة المصالحة الكاملة و الحقيقية مع الأفراد والجهات لتفادي الكوارث ولإيقاف مسلسل تضييع الفرص ووضع بلادنا على سكة التنمية و الدمقرطة الحقة والرقي الحضاري والعدالة الاجتماعية الضامنة للسلم والتلاحم المجتمعي. وكيف أنه و منذ معركة إستقلال البلاد والتضحيات الجسام وبعدها انتفاضة شباب حركة 20 فبراير 2011 المجيدة إلى حراك الريف الشامخ مع استشهاد محسن فكري بأبشع الطرق إلى استشهاد عماد العتابي والاعتقال التعسفي الذي طال الشباب الغاضب وحول صيف العائلات إلى جحيم و عيدهم إلى حزن و معاناة وهو ينتظر إنصاف أبناء الوطن و ضمنهم حفدة محمد بن عبدالكريم الخطابي، مرورا بكل المآسي والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي تذكرنا بسنوات الجمر والرصاص، والتي تستمر وتنكل بالمناضلين و النقابيين والأساتذة والممرضين والأطباء و الصحافيين والعبيد الجدد العاملين بمؤسسات لا تحترم قانون الشغل، وغيرهم كثيرون.... لم نستخلص الدروس والعبر لتمنيع الوطن وإنقاد ما يمكن إنقاده وتفادي ما هو أهول وأن نعي أن مغرب القرن 21 يجب أن يعرف قطائع مع سياسات ماضوية ومع الفساد المستشري وأن عليه التعجيل بجبر الضرر لكل من طالتهم أيادي القمع و الظلم و إنصاف البؤساء و المظلومين.
المصالحة يجب أن تتم عبر تحقيق الحكامة الأمنية و الجهوية المتضامنة المتكاملة وضمان شروط إحقاق الحقوق لصون الكرامة الانسانية ونشر ثقافة احترام وصيانة حقوق الانسان في صفوف رجال الأمن أولا، وعبرالاصلاحات اللازمة لبناء الديمقراطية الحقة والمواطنة الكاملة ونشر ثقافة المساواة واحترام الاختلاف.
فالكل يعلم بأن الانفتاح على إفريقيا مهم و أن التقدم نحو بناء المغرب الكبير فرصة لمنطقتنا، و الكل يتابع تطور الاخطار المحدقة بملف الصحراء التي لم تكن يوما بحاجة لإجماع لأنها ومنذ البدأ قضية الشعب المغربي، لكن الشعب لا زال ينتظر جواب مغربي ـ مغربي للمغاربة على أوضاعهم المتردية ومعاناتهم وعلى مصير و مستقبل أبنائهم الذين أحبوا الوطن و هم مستعدون للتضحية من أجله في زمن كثر فيه المتملقون و الانتهازيون من دعاة الانتقام من الشباب الذي يفضح جشعهم.
لم تعد المعالجة الجدرية للأوضاع المتأزمة قابلة للتأجيل والكل يعرف بأن ترميم الواجهة و سياسة الخوف لم تعد مجدية فالوضع يقتضي المواجهة الصارمة لأسباب صناعة البؤس و البؤساء والتي تكمن في استمرار ثنائي الفساد و الاستبداد; والريع و الحكرة; والجهل والفقر واتساع الفوارق الاجتماعية والمجالية التي تضعف التلاحم المجتمعي و تخلق هوة بين الأجيال تضر بالشباب بالدرجة الأولى، وتجعل الأمل في الرقي المجتمعي يتراجع خاصة مع توجيه أسلحة الدمار الشامل للمدرسة و الصحة العموميتين، بالإضافة إلى استمرار الافلات من العقاب في ظل عدم استقلال القضاء يزيد من فقدان الثقة في المؤسسات مما يشكل خطرا على إمكانية دمقرطة الدولة و المجتمع مستقبلا وصيانة الأمن والسلم و تحقيق العيش الكريم. فالمعركة التي يجب أن يتجند لها الجميع لوضع حد لمسلسل البؤساء هي معركة القيم و القوانين و التنوير و تحرر الانسان المغربي ومحاربة الفساد و الشروع في الإصلاحات الضامنة لبناء دولة الحق و القانون دولة المواطنات والمواطنين وليس دولة الرعايا المستضعفين.
كتاب الرأي