الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

سعيد الكحل:أهداف البيجيدي من تعريب المدرسة العمومية

سعيد الكحل:أهداف البيجيدي من تعريب المدرسة العمومية سعيد الكحل
كانت المدرسة العمومية، منذ الاستقلال وإلى تسعينيات القرن العشرين على أبعد تقدير، ورغم كل المخططات الرسمية لاستهدافها ، مدرسة مواطِنة يلجها أبناء الشعب المغربي من مختلف طبقاته وتضمن لهم تكافؤ فرص الترقي الاجتماعي والتحصيل العلمي والمعرفي . كانت أقسامها تضم أبناء كل الطبقات وتقدم لهم نفس المناهج والبرامج والقيم كما تفتح أمامهم نفس المسالك والشعب والآفاق العلمية والمهنية .
ومن ثم كان أبناء الأسر الفقيرة  ينالون حظهم من التعليم والتكوين وينافسون أبناء الأغنياء على ولوج المعاهد العليا والكليات المتخصصة .
وكانت المدارس الخصوصية ،إلى حدود منتصف الثمانينيات ، لا يلتحق بها إلا التلاميذ المفصولون عن الدراسة؛ لهذا لم تكن محط تقدير من الأسر والمجتمع معا . لكن الخطاب  الملكي في 1987 غيّر المعادلة وفتح الفرص أمام الاستثمار في التعليم الخصوصي على حساب جودة التعليم العمومي استجابة لتعليمات صندوق النقد الدولي وخدمة لمخططات سياسية تروم توسيع الفوارق الطبقية وضرب المدرسة العمومية كآلية للترقي الاجتماعي ومجال لاكتساب الوعي السياسي .
هكذا توالت مخططات الإجهاز على التعليم العمومي وتقليص فرص التكوين والتحصيل والترقي أمام أبناء الأسر الفقيرة . وجاء مخطط حكومة البيجيدي ليجهز على ما تبقى من المدرسة العمومية . وإذا كانت الحكومات السابقة خضعت أساسا إلى إملاءات صندوق النقد الدولي في استهداف المدرسة العمومية (تغيير البرامج ، زيادة سنوات الابتدائي وتقليص سنوات الإعدادي للاقتصاد في الأطر والبنايات ) فإن حكومة البيجيدي جعلت دوافعها الإيديولوجية أشد خطرا على المدرسة العمومية من تعليمات صندوق النقد الدولي . إذ لم يعد خافيا على المواطنين أن قيادات البيجيدي وذراعه الدعوية حركة التوحيد والإصلاح تضغط بشدة على الحكومة من أجل تعريب كل المواد العلمية والتقنية . والغايات من هذا التعريب يمكن الإشارة إليها كالتالي :
1 ــ إغلاق فرص التكوين والانفتاح على الثقافات المختلفة أمام تلاميذ المدارس العمومية حتى يبقوا سجيني الثقافة المحلية التي تغذيها التنظيمات الإسلامية والسلفية بالخرافات وعقائد التكفير وفقه التحريم والقتل .
2 ــ أسلمة المجتمع عبر اتخاذ المدرسة قناة رئيسية لضرب الفكر النقدي وتكريس التفكير الأصولي القائم على الطاعة والتبعية للشيوخ والزعماء ، وكذا إشاعة ثقافة الغلو والتطرف ومناهضة قيم وثقافة حقوق الإنسان ومعاداة الحداثة ومحاربة مكتسباتها. فلا غرابة إذن أن يتخلى المدرسون عن وظائفهم التربوية ليتحولوا إلى شيوخ وداعة تحريم الفنون بكل أنواعها وتحريم الاختلاط وفرض الحجاب واستهجان العلوم الحقة والمكتسبات الحضارية والتحريض على الكراهية.
3 ــ تشكيل ذهنية  مجتمعية قابلة للتشبع بثقافة الكراهية وفقه الغلو وفتاوى التحريم ليسهل استقطاب الأفراد وتجنيدهم لخدمة المشروع المجتمعي الأصولي .إذ كلما امتلك المرء لغة جديدة اتسع أفقه المعرفي وعظمت آماله وتطلعاته وتشوّف إلى أمم ومجتمعات أرقى ، فتعذر بالتالي تجنيده أو استقطابه.
4 ــ التحكم في المجتمع وتحديد اتجاهاته وردود أفعاله ، لأن من يتحكم في المدرسة ومناهجها يتحكم في ذهنية المجتمع وينمّط تفكيره. والاستبداد عموما، والإسلاميون على وجه الخصوص يستثمرون في الجهل حتى لا يسود الوعي فتدور الدائرة عليهم .
5 ــ توسيع  قاعدة المنخرطين في البيجيدي والمتعاطفين معه لاستغلال أصواتهم الانتخابية أو لحسم معارك سياسية مرتقبة. ولا يمكن تشكيل هذا الجيش الاحتياطي وهذا الخزّان الانتخابي إلا بتجفيف منابع العقل والنقد التي توفرها المدرسة العمومية ولو في حدودها الدنيا .
6 ــ إجبار متوسطي الدخل على اللجوء إلى التعليم الخصوصي لتوفير تعليم أفضل لأبنائهم ، وفي هذا فتح أبواب الاغتناء السريع لقيادات الحزب والحركة وأعضائهما الذين جعلوا من الاستثمار في هذا القطاع هدفا إستراتيجيا لأهميته القصوى في مراكمة الأرباح ، توفير مصادر قارة لتمويل أنشطة الحزب والحركة واستقطاب الأتباع ، اختراق المجتمع ونشر إيديولوجيتهم خصوصا لدى الأطفال ..) .
7 ــ ضرب تكافؤ الفرص بحرمان تلاميذ التعليم العمومي من فرص الترقي والارتقاء المعرفي وفتحها أمام أبناء الفئات الميسورة التي تتحمل تكاليف الدراسة في المؤسسات الخصوصية .
8 ــ خدمة أهداف الطبقة المتحكمة في دواليب الدولة والاقتصاد بوضع الحواجز المعرفية أمام تلاميذ التعليم العمومي حتى لا يتجاوز طموحهم الوظائف البسيطة والمهن التقنية ، أي يظلوا في قاع المجتمع ولا يتطلعوا إلى تسلق طبقاته .
بهذا المخطط الذي يسعى البيجيدي لفرضه على الشعب المغربي، لن نكون أمام مدرسة مواطنة تلقن للتلاميذ نفس القيم والمبادئ والمعارف الأساسية وتؤهلهم لنفس الوظائف والمهن، بل أمام مدارس تعيد إنتاج الطبقات الاجتماعية وتزيد الهوة بينها اتساعا .
إن البيجيدي ، بمناهضته تدريس المواد العلمية والتقنية باللغات الأجنبية الحية ، يعيد تكرار التجربة السلبية التي عاشها المغاربة في ظل الاستعمار حين طالب فصيل من المقاومة بمقاطعة المدارس الفرنسية العصرية واللجوء إلى المدارس العتيقة حفاظا على الهوية المغربية الإسلامية، بينما فصيل آخر لم يقاطع التعليم الفرنسي وجعل أبناءه يستفيدون من خدماته العلمية والعرفية ، وحين جاء الاستقلال احتل خريجو المدارس الفرنسية المناصب العليا لأن لهم الكفاءة والدراية، بينما خريجو المدارس العتيقة بالكاد عُيّنوا معلمين عرضيين وعُرفاء في المدارس التي قاطعها آباؤهم وأجدادهم .