Thursday 18 December 2025
مجتمع

الدكتور أنور الشرقاوي: عندما يتحول توقيت اخذ الأدوية سلسلة أساسية في العلاج.. السر في أحترام الزمن البيولوجي

الدكتور أنور الشرقاوي: عندما يتحول توقيت اخذ الأدوية سلسلة أساسية في العلاج.. السر في  أحترام الزمن البيولوجي الدكتور أنور الشرقاوي خبير في التواصل الطبي والإعلام الصحي
لفترة طويلة، اختُزل الفعل الطبي في وصفة ثلاثية واضحة: الدواء المناسب، بالجرعة المناسبة، للحالة المناسبة.
اليوم، يفرض بُعدٌ رابع نفسه بقوة في التفكير العلاجي: توقيت تناول الدواء.
 
هذه الثورة الهادئة تحمل اسمًا لا يزال غير مألوف لدى عموم الناس: الكرونوفارماكولوجيا، أو علم توقيت الأدوية. 
تخصص علمي دقيق، لكنه في صعود متواصل، يعيد للزمن مكانته الطبيعية داخل الممارسة الطبية.
 
وقد جعلته المجلة المغربية للطب العملي محورًا أساسيًا في عددها 160 الصادر في ديسمبر 2025، في إشارة واضحة إلى تحول عميق في طريقة مقاربة العلاج.
 
الملف، الذي أشرف عليه كل من الأستاذ إلياس بيدادة والأستاذة فدوى بردي والاستاذ بوسليمان، من مصلحة الصيدلة وعلم الأدوية بالمستشفى العسكري التعليمي محمد الخامس بالرباط، يذكّر بحقيقة غالبًا ما يتم إغفالها: جسم الإنسان ليس آلة جامدة.

إنه كيان حي تحكمه إيقاعات بيولوجية دقيقة. إفراز الهرمونات، ضغط الدم، نبض القلب، الاستقلاب، وحتى الاستجابة للأدوية، كلها تتغير وفق دورة يومية تُعرف بالإيقاع اليوماوي، تمتد على نحو 24 ساعة.
 
" الكرونوفارماكولوجيا" chronopharmacologie  تهتم تحديدًا بهذا البعد الزمني. 
هدفها هو مواءمة توقيت إعطاء الدواء مع الإيقاعات البيولوجية للمريض، من أجل تعزيز الفعالية العلاجية وتقليص الآثار الجانبية. فالدواء نفسه قد يكون أكثر نفعًا في ساعة معينة، وأقل فاعلية أو أكثر سُميّة في ساعة أخرى.
وترتكز هذه المقاربة على ركيزتين متكاملتين.

الأولى تدرس تأثير وقت التناول على مصير الدواء داخل الجسم، حيث تختلف عملية الامتصاص والتوزيع والفعالية والسُمية على مدار اليوم.

أما الثانية، المعروفة باسم “التحمّل الزمني”، فتهتم بالعكس، أي بقدرة الدواء على التأثير في الإيقاعات البيولوجية نفسها، إما بتعديلها أو اضطرابها.
 
على المستوى السريري، لا تبقى هذه المفاهيم حبيسة النظريات. فإدماج الكرونوفارماكولوجيا في الوصفة الطبية يسمح بالانتقال من طب موحد إلى علاج مُفصّل على مقاس الزمن البيولوجي لكل مريض. 
لم تعد الجزيئة والجرعة كافيتين، بل أصبح التوقيت عنصرًا علاجيًا قائمًا بذاته.
 
وتُعد المعالجة بالكورتيكويدات المثال الأوضح على ذلك. إذ تُظهر المعطيات العلمية أن تناول هذه الأدوية صباحًا، ما بين السابعة والتاسعة، تزامنًا مع الذروة الفيزيولوجية لإفراز الكورتيزول، يحسّن بشكل ملحوظ فعالية العلاج ويحد من آثاره الجانبية.
 
هذا التزامن ضروري في حالات القصور الكظري، كما يلعب دورًا محوريًا في الربو المعتمد على الكورتيزون، حيث يساعد على الوقاية من النوبات الليلية التي تُرهق المرضى.
 
هكذا “الطب المعتمد على توقيت اخذ الادوية ” هو ما يسلّط عليه الضوء الملف الخاص للمجلة المغربية للطب العملي.
 
ثلاث مساهمات رئيسية ترسم ملامحه.
الأولى تعود إلى أسس علم الأحياء الزمني وتشرح كيفية عمل الساعات البيولوجية الداخلية. 
الثانية تستعرض تطبيقات هذه المبادئ في أمراض القلب، حيث تكون تقلبات ضغط الدم ونبض القلب مرتبطة بشكل وثيق بالإيقاع اليوماوي.

أما الثالثة فتقدم تحليلًا تجميعيًا حول أدوية خفض ضغط الدم، مقيّمة أثر العلاج الزمني على التحكم في الضغط وتقليل المخاطر القلبية الوعائية، مع تركيز خاص على الساكنة الإفريقية.
وبعيدًا عن الغنى العلمي، يبرز هذا الملف الدور المحوري لمؤسستين أساسيتين في التكوين الطبي المستمر بالمغرب. 

فالمستشفى العسكري التعليمي محمد الخامس بالرباط يرسّخ مكانته كقطب تميز، حيث تغذي الأبحاث الصيدلانية-السريرية الممارسة اليومية. 

في المقابل، تؤكد المجلة المغربية للطب العملي، تحت إدارة الدكتورة سليمة العمراني جوطي، موقعها كأداة مركزية لنشر المعرفة الطبية المحيّنة.
 
وبتوزيع يصل إلى 10 آلاف نسخة تُمنح مجانًا للأطباء عبر مختلف جهات المملكة، تضطلع المجلة بدور استراتيجي في نقل الابتكارات العلاجية وترسيخ طب مغربي قائم على أحدث المعطيات العلمية.
 
وفي زمن تسعى فيه الممارسة الطبية إلى مزيد من التفصيل والتخصيص، تعيد الكرونوفارماكولوجيا التذكير بحقيقة بسيطة وعميقة في آن واحد: الزمن جزء من العلاج. 

وإتقان التعامل معه أصبح، اليوم أكثر من أي وقت مضى، فعلًا طبيًا كامل الأركان.