الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

لحسن ايت الفقيه: من أجل تدوين أعراف الماء بتافيلالت بجنوب شرق المغرب

لحسن ايت الفقيه: من أجل تدوين أعراف الماء بتافيلالت بجنوب شرق المغرب لحسن ايت الفقيه

يشكل الماء بمنطقة تافيلالت الكبرى أكثر من سائل طبيعي، لأنه لا يتوقف عند علاقته بكل شيء حي، بل يتجاوز ذلك ليقتحم عالم الميتافيزيقا ويحتل مكانه فيه، ويظهر في كثير من المواقع كأنه رسول السكان إلى العالم الماورائي. يظهر في المزارات المائية، الحامات (حامات إمغي)، والبحيرات(بحيرة تيزليت)، والعيون(عين تيفيكرة). ولأن لجريانه وقعا على سطح الأرض، إن لم نقل إنه واحد من عوامل المورفوتشكال، فقد اتخذ أساس لمعلمة المجال بمنطقة تافيلالت الكبرى واعتبر منذ عهد الحماية الفرنسية كمعيار للتقطيع الإداري.

وحسبنا أن مقسمات الماء بين الأنهار الثلاثة، غريس، زيز، كير، حدود بين الدوائر الإدارية أو الجماعات المحلية أو الأقاليم الإدارية نفسها. ولم تبدع فرنسا، في عهد حماية المغرب، في ذلك، فالمغاربة كانوا منذ القديم يتخذون المجاري المائية حدودا فاصلة بين الممالك الأمازيغية، حيث ذكر المؤرخ اللاتيني سالوست أن واد ملوشة (ملوية) حد فاصل بين مملكة بوكوس ويوغورطة. وكان الماء قبل عصر التقطيعات الإدارية الحديثة والفلسفة المجالية والجهوية الموسعة يتخذ لباسا إثنوغرافيا، وعلى سبيل المثال أصبح واد حيبر يحمل اسم واد أيت عيسى بعد وصول هذه القبيلة إلى حوض كير. ولواد زيز رافد ينسب إلى أيت يحيى بشرق دائرة إملشيل. وللعيون كذلك غلاف إثنوغرافي مثل أغبالو نايت سخمان (تعني أغبالو عين) شمال إملشيل. ونسجل أن معظم العيون بمنطقة تافيلالت، أو في جميع أنحاء المغرب، تنسب إلى الحيوان أو النبات،عين إمصكي، عين تيفيكرة، أغبالو ن تسردان، عين لحنوش، عين الذياب، تيط أورماس، أمان إليلا.

وفضلا عن المزارات المائية المنسوبة إلى النبات أو الحيوان تشكل تافيلالت الكبرى وسطا ثقافيا يزخر بطقوس الماء. فهناك مواسم بكاملها تنسب كلها، أو في بعض فقراتها، إلى الماء،موسم بحيرة تيزليت، موسم سيدي بوكيل. وهناك طقوس بكاملها تنسب إلى ضحايا الغرق في عهد النبي نوح، تصادف الثامن من محرم من كل سنة، ويطبعها توزيع طعام الثواب، بويانوبالأمازيغية، وهي كلمة مركبة من مقطع بويا، الذي يعني في اللغة الأرامية الحبوب، ومن مقطع (نو) بالأمازيغية الذي يفيد النسب. وتعني بويانو حبتي . وللإشارة فالحبوب، القمح، الذرة، الفول وغيرها، تشكل أساس طعام الثواب المرتبط بالماء. وهناك طقوس قديمة للاستسقاء تهدف إلى التحرش الجنسي بإله الماء والخصوبة أمون، الذي تنسب إليه كلمة أمان أي الماء، وتعرف هذه الطقوس بالثلغنجا. ولا مجال لتفصيل القول في طقوس الاحتفال بنجاة بني إسرائيل من فوعون رفقة النبي موسى، وهي طقوس حاضرة في الأوساط التي نشطت فيها اليهودية الأمازيغية، ومن أنشاطتها لعبة الرش. وهناك طقوس ذات ارتباط بالمسيحية كتعميد العرائس في اليوم السابع بعد ليلة الدخلة التي اختفت في بعض المناطق.

وللماء أيضا بعد وظيفي حيث اتخذته قبيلة أيت يزدك معيارا للتوزيع العشائري للأرض، بيان ذلك أن أرض عشيرة ما يمتد على طول الوادي من بداية الشريط الزراعي المسقي المنسوب بالطبع إلى ذات العشيرة، إلى حيث يتوقف جريان ساقية العشيرة ذاتها بالفعل أو بالقياس، أي أن ماء الساقية يمكن على مستوى الطوبوغرافيا أن يبلغ حدا معينا لو كانت كمية المياه التي تسعها الساقية تسمح بذلك. وتسمى الأراضي المسقية على مستوى القياس لا على مستوى الواقع، إسوان، تقرار، تلوطات.

وقبل ظهور الساعة الميكانيكية، كان الماء الموظف في الزراعة المسقية بواسطة السواقي أو المواجل يقسم في أيام الشح اعتمادا على حركة الشمس الظاهرية، من غروب الشمس إلى طلوعها، ومن الفجر إلى الضحى، ومن الضحى إلى الزوال، ومنه إلى العصر أو الغروب. ولضبط الفترة الزمانية يلجأ السكان إلى قياس ظلالهم بواسطة أقدامهم، ويختلف عدد الأقدام المطلوبة في قياس الظل، عند بلوغ الشمس نقطة الزوال، من شهر إلى آخر. ولضبط القياس حسب شهور السنة نظم الشعراء قصائد شعرية للغاية تحفظ عن ظهر قلب. وأما ماء المواجل فيوزع كيفا كماء السواقي وفق قياس الزمان قبل ظهور الساعة الميكانيكية، ويوزع كما بقياس عمق الماء في الماجل(الصهريج) بأعمدة من القصب لقياس العمق، يختلف طولها حسب اختلاف الماء المخصص لكل عشيرة، مع العلم أن كمية الماء تتناسب والمساحة الزراعية الخاصة بالعشيرة. وتشكل المساحة الزراعية المسقية أساسا لتحديد عمال إصلاح السواقي وقنوات الري المختلفة والأشغال الجماعية للقبيلة.

وحضر الماء في أعراف الكثير من القبائل والعشائر. لذلك فهو مضمن في الوثائق العرفية وعقود البيع والشراء والإرث، ومحاضر الصلح، وإصلاح ذات البين بين الأشخاص والقبائل. ولا يزال الماء سببا لكثير من التوتر والنزاع بمنطقة تافيلالت.

وفي عهد استقلال المغرب بدأ القانون الوضعي يصطدم بالعرف وعجزت المحاكم عن حل النزاع حول الماء للاختلاف المرجعي بين المحكمة ومؤسسة القبيلة. ولقد عرف وضع الماء هدوءا طيلة سنوات الجفاف التي دامت لأكثر من عقدين من الزمان. ولما تغير المناخ وباتت المنطقة تشهد أمطارا طوفانية نتج عنها انجراف التربة واندراس القرى بأكمالها(بوذنيب) ونسف الرياح نسفا كاملا لأشجار باسقة بمنطقة الريش، بات التفكير في مواجهة الكوارث الطبيعية وفي معالجة التوتر الذي خلفه ارتفاع منسوب الماء بسد الحسن الداخل، يعد واحدا من الأولويات.

ولتجاوز الأزمة يبدو مفيدا تدوين أعراف الماء وترجمة بعضها من الفرنسية إلى العربية ومن الأمازيغية إلى العربية أو العكس وذلك ابتغاء الاستئناس بكل ما اتخذ مرجعا حول تنظيم الماء، تسهيلا لبناء مخطط يشكل مرجعا لتدبير أزمات الماء. ويبدو مفيدا الإطلاع على نسخ الأحكام القضائية حول قضايا الماء.