يهتم التاريخ بدراسة الماضي البشري بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية...إلخ. وقد انتقل التاريخ من فرع ثانوي من فروع المعرفة الإنسانية إلى أحد أعمدتها الأساسية كعلم له مباحثه ومناهجه ومدارسه الخاصة، لدرجة استوعب معها جميع العلوم الأخرى التي انتصبت كعلوم مساعدة للتاريخ. وتعد الموضوعية والعلمية في التاريخ من الموضوعات التي اختلفت بصددها الآراء واحتدم بشأنها الجدل في فلسفة العلوم الاجتماعية. وقد انقسم المؤرخون بهذا الخصوص إلى فريقين: أصحاب النزعة الموضوعية (Objectivisme) وأصحاب النزعة الذاتية (Subjectivisme).
فما هي المقاييس التي نستطيع بواسطتها الحكم على علمية وموضوعية الكتابة التاريخية؟
- علمية الكتابة التاريخية:
هل بوسعنا كمختصين في التاريخ أن ننزع عنا عباءة التاريخ، ونخرج قليلا من جُبّته لكي نتواجد خارج دائرته، ونأخذ موقع المتلقي العادي، فنتخلى بذلك ولو مؤقتا عن الانتماء الضيق لهذا الحقل المعرفي لنرى كيف يكون التاريخ من منظور المتلقي، ولكي نقف على مدى مصداقية الكتابة التاريخية وموضوعية المقاربة التاريخية وقدر الوثوق بها والاطمئنان إلى نتائجها؟
من منطق هذه الرؤية الخارجية والتناول النقدي للكتابة التاريخية يحق التساؤل عن ماهية التاريخ من زاوية العلمية: فهل يحق القول بأن التاريخ يتوفر بالفعل على مواصفات العلم الموضوعي؟
مُقدّما، يتوجب الإقرار بأن التاريخ هو علم ينتمي إلى فرع العلوم الاجتماعية والإنسانية، غير أنه لا يخضع لقاعدة التجريب كما في العلوم الحقة. كما أنه يُقارب موضوعات ذات صلة بالإنسان ما يجعل موضوع التاريخ متغيرا وغير ثابت والتعامل مع نتائجها بإطلاقية أمر غير ممكن مهما كانت مثانة المناهج المتبعة.
كما أن كتابة التاريخ تتداخل فيها ذات المؤرخ أو الباحث بموضوع البحث في صورة انتماءات دينية أو قومية أو مذهبية أو فكرية أو إيديولوجية...، ما يجعل الحديث عن موضوعية مطلقة في حقل الكتابة التاريخية ضربا من الخيال. ذلك أن تأثير تلك الخلفيات على ما يكتب المؤرخ أمر أكيد ولا سبيل لإنكاره.
لكن، ومن ناحية أخرى، وإذا كان التاريخ علم نظري، فإن اعتماده على عدد من العلوم المساعدة التي تنتمي لفرع العلوم الحقة، واشتغاله على الوثائق المادية واللقى الأثرية يُكسب نتائجه قدرا من المصداقية العلمية، على أن استنتاجات المؤرخين والباحثين في التاريخ والقواعد النظرية التي يستخلصونها لا يمكن اعتبارها علما، بقدر ما هي تأويلات تخضع لقواعد الشك والنقد. ولعله من المجحف تحويلها مع كثرة تداولها والاستشهاد بها إلى قواعد ومقولات نظرية علمية يقع البناء عليها.
إن التأويل في حقل الكتبة التاريخية يتوجب أن يظل في حيز الترجيح، ومن المثير للجدل حقا أن نرى كيف أن بعض الباحثين يحوّلون مجرد تأويلات وترجيحات إلى مرتبة الحقائق التاريخية الأكيدة، مع ما لذلك من تبعات سلبية على التراكمات التي تحدث في الكتابة التاريخية.
إن علمية الكتابة التاريخية تبقى محدودة، كما تظل نتائج المقاربة التاريخية نسبية، ولا محل للسعي لإكسابها طابع المعطى التاريخي العلمي الموثوق بصدقيته.
- موضوعية المصادر التاريخية:
بالنسبة للكتابات المصدرية، والمقصود بها المصادر التاريخية التي عاصر مؤلفوها الوقائع التي كتبوا حولها، فمن اللافت للانتباه أن نرى كيف أن ثلة من المهتمين بحقل التاريخ عادة ما ينطلقون مما اختُطّ في المصادر على أساس أنها تمثل حقائق تاريخية تكفيهم مؤونة صرف المجهود لنقدها والتحري من صدقية معطياتها، وبالتالي يقع إقحامها على حالتها "الخام" دون تثبت، والاستناد إليها والبناء عليها على أساس من الوثوقية المبالغ فيها، فيقع التوصل إلى استنتاجات، هي في العمق محل نظر، سرعان ما يتلقفها آخرون كحقائق تاريخية أكيدة.
والواقع أن المصادر، إنما هي كتابات تأثرت بالسياقات الحضارية والثقافية للعصور التي كتبت فيها، وبالميولات الفكرية والجذور الاجتماعية والتموقعات السياسية للذين ألفوها. إن مسألة الحياد فيما كتبه المعاصرون للأحداث تبقى مطروحة للنقاش والنظر المتعدد. ولا يمكن بأي حال التعاطي معها كما لو أنها معطيات تاريخية أكيدة يتم الانطلاق منها دون تحر أو تحقق معمق. إن ما اختطّه القدامى يقترب من وجهة النظر في الأحداث التاريخية وتجاه الفاعلين التاريخيين أكثر ما تمثل معطيات تاريخية مجردة عن الأهواء والميولات والنظرات الذاتية.
وعليه، فإن التعامل مع المصادر ينبغي أن ينبني في المقام الأول على قاعدة الشك والنقد من خلال استحضار الشروط التاريخية الخارجية للنصوص القديمة، ومُقابلة النصوص بمثيلاتها المنتمية إلى نفس الفترة وحتى إلى فترات سابقة أو لاحقة تحريا للدقة والموضوعية.
وبالمحصلة، فإن الكتابة التاريخية ومعها الكتابات المصدرية تبقى هشّة، ولا يمكن اعتبارها علما يحظى بالموضوعية والوثوقية المبرمة. إن نُشدان العلمية والموضوعية في حقل التاريخ مرتبط أشد ما يكون الارتباط بذات المؤرخ أو الباحث، فهو من يستطيع متى ما تخلص من الاشتراطات الذاتية وتسلّح بالنقد والتساؤل المُحايد، أن يُحوّل المكتوب التاريخي إلى مادة أقرب إلى العلم منها إلى التدبيج الإنشائي التقريري والتجميع الاعتباطي لنصوص لم تخضع للمقاربة النقدية الصارمة. فهذه بالذات هي أولى مهام الباحثين في حقل التاريخ.
- أثر الافتراض على مصداقية الكتابة التاريخية:
هناك أمر نلحظه على الكتابات التاريخية، وهو ذلك النزوع المفرط نحو الطابع التقريري الإخباري في التعاطي مع معطيات تاريخية تم استقاؤها من مادة وثائقية غير كافية. فهذا التوجه ينتصب بدوره ككابح يعرقل العلمية والموضوعية المتوخاة في الكتابة التاريخية. إن هذا الميل تحكمه شروط ذاتية مرتبطة بالمؤرخ الذي يسعى لإقحام أي نص مهما كان ضعيفا في سبيل التوصل إلى استنتاجات تقريرية، فيصنع بذلك شيئا من لا شيء. إن هذا المسعى المعرقل هو ما يحوّل الكثير من القضايا من طور الافتراض إلى طور المعطى التاريخي بسبب طابع الإجمال والاستنتاج الذي يقوم به المؤرخ والذي يبقى انشغاله الأساس.
فغني عن البيان، أن المؤرخ عادة ما ينطلق في مقاربته للظاهرة التاريخية من مجرد فرضيات مُسبقة يضعها كمنطلق للبحث، لكن المعيب في الأمر هي مسلكيات الباحث التي تنحو، وبشكل مقصود، نحو محاولة تأكيد الفرضية المسبقة بحشد أكثر ما يكون من الإثباتات في مسعى تأكيد صحّتها، وبالتالي تزكية صدقية منطلقاته النظرية. بيد أن المطلوب هو التعامل الموضوعي مع كل ما يُساق من وثائق تخص التحقق من الفرضيات الموضوعة سواء باتجاه تأكيد صحتها أو دحضها.
إن الفرضية في حقل التاريخ لم توجد لتستعمل كسلّم يرتقيه المؤرخ للوصول إلى استنتاجات موضوعة مُسبقا، وإنما هي مجرد منطلق للبحث والتحري الموضوعي المفتوح على جميع الآفاق البحثية. أكثر من ذلك، فإن هذه الفرضيات المفبركة التي يقع تأكيدها مع سبق الإصرار وبشكل تعسفي سرعان ما ترتقي في خلاصات المؤرخ النهائية إلى مصاف المعطى التاريخي الأكيد، ويقتبسها باحثون آخرون، ويبنون عليها فرضيات أخرى تُفضي بدورها إلى استنتاجات معينة، وهكذا دواليك. ففي خضم هذا التسابق نحو التوصل إلى حقائق تاريخية جديدة تضيع الموضوعية وتتأثر العلمية في حقل التاريخ سلبا.
- العلمية ليست عائقا أمام تطور البحث التاريخي:
إذا كانت الوثائق الأثرية تعكس معطيات محايدة وأقل تأثرا بذاتية المؤرخ، وبالتالي تقترب معطياتها من الموضوعية، فإن الوثائق المصدرية المكتوبة أو الشفهية واستنتاجات المؤرخين تبقى حمّالة أوجه، ويظل الشك والنقد هما القاعدة في التعامل معها. في حين أن الكتابة التاريخية التحليلية للوثائق باختلاف أنواعها، تبقى مجرد محاولة في التأويل وترتهن بالشروط الداخلية والخارجية للوثائق وبذاتية المؤرخ وبمدى دقة الفرضيات التي يضعها.
بيد أن تماهي المختصين في التاريخ مع دفوعات العلمية والموضوعية وانشغالهم بمحاولة إبعاد الذاتية وتوخي الموضوعية، والتعاطي مع ضعف العلمية في التاريخ كما لو أنها "شُبهة" تنتقص من قيمة هذا الحقل العلمي، هي في واقع الأمر مذهب غير مجد. إن المنطقي هو التعامل مع الظاهرة التاريخية في مصادرها ووثائقها ومنهجية مقاربتها على أساس أنها ظاهرة هشّة، وهذا هو بالذات ما يعطي طابع التشويق للكتابة التاريخية، ويفتح أبواب البحث التاريخي على مصراعيها دونما توقف، لأن مرامي البحث التاريخي لا تتوقف عند إيجاد "حقائق" أو معطيات تاريخية حاسمة تُنهي مسار النبش والتنقيب الدائم والمستمر.
وعلى ضوء ذلك، فإن علمية التاريخ تبقى دوما على المحك، حتى أننا إذا بحثنا بين دفتيه عن حقائق علمية نهائية، لا نكاد نظفر بشيء. وهذا بالضبط ما يعطي لهذا الحقل المعرفي حيويته وقابليته للتطوير والتعديل والتغيير، بحيث لا يجد المؤرخ حرجا في التخلي عن مقولات تاريخية مهما كان لها من الرسوخ والتمكن متى ما ظهرت معطيات جديدة تثبت بُطلانها. لهذا وجب على المؤرخ أن لا يسعى إلى حشد اليقينيات-مدفوعا إلى ذلك بنقيصة ضعف العلمية-لكي تتحقق لدى المتلقي للخطاب التاريخي القناعة بأن ما يتوصل إليه المؤرخ هو إنتاج علمي يحظى بالعلمية المطلقة.
- على سبيل الختم:
وبناء على ما مر، يجوز القول بأن نسبية العلمية والموضوعية في حقل التاريخ لا يمثل نقيصة على عاتق المؤرخ التخلص منها والسعي لإثبات عكسها، وإنما هي جزء من طبيعة هذا الحقل المعرفي، فالموضوعية هي أمر نسبي في جميع العلوم الاجتماعية والإنسانية. كما أن الموضوعية في التاريخ تختلف عن الموضوعية في باقي العلوم الحقة القائمة على التجريب. وعلى خلاف ما يُعتقد، فإن خاصية عدم الخضوع للتجريب في التاريخ هي ميزة إيجابية تُبعد عن التاريخ كعلم صفة الجمود والارتهان بالمقولات والقوالب النظرية الجاهزة المثقلة بالصيغ التقريرية غير المجدية. إن النظر للتاريخ من هذه الزاوية هو ما يجعله علما مرنا دائم التجدد ولا تُستهلك موضوعاته، بقدر ما تبقى مفتوحة وباستمرار على أفاق بحثية متجددة، وهو ما يطرح مفهوم إعادة كتابة التاريخ.
مراجع المقال:
- عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة 4، 2005.
- محمود الحويري، منهج البحث التاريخي، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، القاهرة، 2001.
- جاسم سلطان، فلسفة التاريخ الفكر الاستراتيجي في فهم التاريخ، مؤسسة أم القرى للترجمة والتوزيع، الطبعة 1، المنصورة، 2005.
- كارل بوبر، عقم المذهب التاريخي، ترجمة عبد الحميد صبرة، المعارف، الإسكندرية، 1959.
- قاسم يزبك، التاريخ ومنهج البحث التاريخي، دار الفكر اللبناني، بيروت، الطبعة 1، 1990.