السبت 27 إبريل 2024
كتاب الرأي

المتوكل: مواسم الهجرة..تعدد الأسباب و النوايا والغايات

المتوكل: مواسم الهجرة..تعدد الأسباب و النوايا والغايات مصطفى المتوكل الساحلي
قال الإمام علي (ض) :

وإِذا رأيْتَ الرزقَ ضاقَ ببلدةٍ ....وخشيتَ فيها أن يضيقَ لا مكسبُ

فارحلْ فأرضُ اللّهِ واسعةُ الفضا.... طولاً وعَرْضاً شَرْقُها و المغربُ

... ضرورات الهجرة  التكتيكية أو الإستراتيجية عبر تاريخ البشرية تقف وراءها دوافع واعتبارات مختلفة  ليقوم بها أفراد أو جماعات صغيرة و كبيرة  .. ومنها  هجرة الأنبياء والرسل ، ومنهم الرسول محمد (ص) من مكة إلى المدينة والتي كانت في  22 من شهر ربيع الأول،الذي  وافق 24 سبتمبر عام 622م، ولقد  ارتأى عمر بن الخطاب  بعد ملاحظة من أبي موسى الأشعري الذي علق على مراسلة مؤرخة بشهر شعبان  متسائلا : كيف سنميز بين شعبان السنة الحالية وغيرها ، فقام  الخليفة باستشارات مختلفة  أفرزت اقتراحات  تأرجحت بين ميلاد الرسول وهجرته  ووفاته ، ليستقر الرأي  في ربيع الأول من عام 16 للهجرة،على أن يكون   يوم 01  محرم من عام 17 للهجرة كأول سنة هجرية ..

واضطر العديد من الأنبياء والمُرسلين للهجرة  لحماية دعوتهم  من القمع والبطش والتضييق الاقتصادي، للبحث عن أماكن مأهولة أو فارغة يتمكنون فيها من ترتيب وتنظيم وتقوية صفوفهم وتبليغ  الرسالة لمن وجدوا من معاصريهم ، وليعلم بها غيرهم سواء كانوا معنيين بإتباعها أم لا ...

وفي إطار الإعداد للهجرة الكبرى المؤسسة للأمة الإسلامية مع النبي الرسول  إلى المدينة أمر النبي (ص) البعض من أتباعه الأوائل بالهجرة إلى الحبشة  بسب الظلم والاعتداءات الكبيرة من غير أتباعه من  قريش قائلا  : " إن فيها رجلا لا يُظلم الناس عنده ".

 .. وعرف العالم الإسلامي هجرات بعد ذلك، بسبب الحروب والمعارك و الفتن المذهبية والسياسية، وبسبب الصراع على الحكم لتأسيس وبناء دول وإسقاط أخرى فيما أصبح يعرف بالعالم الإسلامي منذ إرهاصات قيام دولة بني أمية إلى القرن الحالي... كما ساهم التقسيم الذي كان وراءه الاستعمار الغربي للمناطق الإسلامية وغيرها  في صنع خرائط بلقنت ليس فقط الشعوب والدول، بل وضعوا منهجية استبدادية تحكمية " مستدامة " تتجدد واجهاتها وغاياتها وطرقها حيث امتدت  أياديهم إلى الثروات المختلفة إستغلالا ونهبا وتفقيرا، مع سعيهم الحثيث  لضبط  سير و إيقاع الاقتصاد على المقاس الذي يبقي الدولة  و الإنسان تابعا وخاضعا لسلطاتهم وسياساتهم الإستراتيجية ونفوذهم الدولي الديكتاتوري المغلف بالخطاب الديمقراطي  والترويج المسرحي التعسفي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على نقيض ما يطبقونهم في بلدانهم .. واعتمدت قوى التحكم العالمي منهجيات جديدة انطلاقا من امتلاكها وتطورها الكبير في مجال التقنيات والعلوم المختلفة حيث يصعب على الدول الضعيفة متخلفة أو سائرة في طريق النمو أن تساير سرعتهم أو تحقق نموها الطبيعي بمعزل واستقلال عنها..فحل احتكار الأسواق العالمية والتحالفات الاقتصادية والصناعية والتقنية  واللوبيات الإمبريالية والمؤسسات الماليه محل جحافل الجيوش ..كما وظف الابتزاز والكيد، و"صناعة " تفكيك الدول وإضعافها وخلق بؤر للتوتر محل المواجهات المباشرة ...

 

ونذكر بعض أسباب الهجرة وأهدافها من:  بحث عن الأمن والاستقرار،  والرزق، و العلم، و الحرية والديمقراطية...الخ ..وتعني  أيضا أن يهجر الإنسان  الأفكار الظلامية  والعدمية والمتخلفة و التحريفية،  ويهجر الظلم والمظالم والتهميش والإقصاء ، و السياسات التضليلية والاستبدادية  ..الخ

وعند ذكرنا لهجرة المغاربة فسنجدها تتجه من وإلى مختلف مناطق الوطن منطلقة  من بوادي وقرى وصحارى المغرب العميق و البلدان والمناطق الخلفية كما تسمى في بعض التوصيفات المستعملة فيما أصبح يطلق عليه السياسات السكانية والعمرانية الحضرية والقروية، وهذه الهجرات مازالت مستمرة وتتقوى سنة بعد أخرى بما لها من نتائج سلبية على العالم القروي، وما لها من إيجابيات بالحواضر في العديد من القطاعات ، كما تنتج عنها سلبيات وقعت وتقع  بسبب عدم اعتماد برامج تنموية تؤهل المدن في مجال بنيات الإدماج والاستقبال على مستويات منها السكن والتعليم والعلاج والخدمات والفضاءات الاجتماعية، وخلق فرص شغل و تثمين وتنمية الأوراش الإقتصادية، وخاصة في مجالات تجارة القرب وتيسير التموين في جميع الأحياء، وإنعاش التجار الصغار والمتوسطين والعديد من الحرف والمهارات والخدمات المختلفة ..

ونجد كذلك هجرات  وتهجير للخارج:

* التي  اتجهت  إلى دول أوروبية مختلفة  لتوفير واستغلال اليد العاملة المغربية القوية لتدوير الإنتاج وتفعيل التنمية والنهضة الاقتصادية بها.  

*ومنها التي قصدت دولا بالقارات الخمس للبحث عن رزق جديد ينقذ المهاجرين من الفقر ومختلف أشكال الخصاص والتخلف..

*و من أجل العلم والمعرفة والبحث العلمي والعمل الأكاديمي ..

*وأخرى  برؤوس أموال وخبرات  وتجارب مغربية  للاستثمار في بلدان العالم ..

*ومنها " التهجير" القسري التعسفي  اللا إنساني الذي أقدمت عليه الجزائر  سنة 1975 بترحيل عشرات الآلاف من المغاربة الذين أسسوا أسرهم بزواج مغاربة من جزائريات و مغربيات من جزائريين ، وساهموا بجدية في استقلالها و  بناء  اقتصادها ، إلا أن سياسات الحكام  بالجزائر  كما استهدفت المساس بالوحدة الترابية للمغرب ، اعتدت على الشعبين المغربي والجزائري الذين امتزجت دماؤهم سواء في إطار دعم الثورة الجزائرية ، أو علاقات المصاهرة والقرابات العائلية بين سكان الجهة الغربية للجزائر والجهة الشرقية للمغرب منذ  عصور ...؟؟

* والهجرات التي نظمت من طرف القوى  الاستعمارية والإمبريالية  للشباب  المغربي بتجنيدهم وإلحاقهم بجيوشهم  لمواجهة خصومهم وأعدائهم في أوروبا وآسيا  وتاثيراتها السلبية  على من بقي منهم حيا  وعلى أوضاع وظروف عيش أسرهم  .. ،

*ومنها التي استهدفت المغاربة اليهود ليرحلوا إلى مختلف دول العالم وخاصة نحو أرض فلسطين المحتلة والذين يتجاوز عددهم بها 500 ألف نسمة، حيث يشكلون ما يقارب 8 في المائة من مجموع سكان إسرائيل.

إن الإحصائيات المعلن عنها رسميا تقول بأن عدد المغاربة المستقرين خارج الوطن ارتفع   من 1.7 مليون سنة 1998، ليبلغ عددهم ما يقارب 05 ملاين سنة 2013، وهذا رقم مهم قياسا لعدد ساكنة المغرب، ولاشك أن العدد ارتفع ما بين ذلك التاريخ ويونيو من سنة 2018.

ولقد عرف المغرب أيضا هجرات بلجوء سياسي إلى مختلف دول العالم لتجنب سياسات سنوات الجمر والرصاص التي تضرر منها العديد ممن لم يغادروا الوطن مابين الاختفاء والاعتقال والمحاكمات المختلفة والإعدام و..إلخ ..وكان من بينهم وطنيون كبار ومقاومين أشاوس واجهوا الاستعمار الفرنسي والإسباني وحتى البعض من بناة الوطن بعد الاستقلال ومؤسسين لأحزاب وطنية وللحركة النقابية والجمعوية، ومنهم مفكرين وأدباء وعلماء وخبراء وكفاءات كبيرة .. عاد العديد منهم بتدرج إلى الوطن كلما حل انفراج وبعد أن تم التوافق على المصالحة وطي صفحة الماضي نهاية تسعينات القرن الماضي...

وفي سياق حديثنا عن الهجرة بطعم اللجوء السياسي لابد أن نشير إلى نوع آخر عرف وأطلق عليه من طرف المعارضة المغربية  بالترحال السياسي الذي أفسد المشهد السياسي ، وتسبب في خلط وتمييع وتبخيس قيم الانتماء للفكر الإنساني الإيجابي المتنور ،  فحصلت بسبب سنوات الجمر والرصاص هجرات  من اليسار إلى اليمين تقية وطلبا للنجاة أو بدوافع وخلفيات أخرى أدناها أن البعض منهم كان مندسا ومتقمصا لشخصية التقدمي ومكلفا بمهمة .. وحصلت هجرات أخرى بسبب تغير في المبادئ  والتوجهات وحتى المواقع والمصالح ..و بسبب اختلافات وصراعات وتناقضات ..و أخرى، بسبب البحث عن أقرب السبل للوصول إلى مراكز القرار والسلطة بالمؤسسات..

كما حدثت هجرات وترحال من اليمين إلى اليسار، ليختلط الأمر على أصحاب السياسة أنفسهم، وعلى العامة و الطبقة المثقفة.. فغيرت وأثرت حتى في المرجعيات الفكرية سواء اليسارية أو اليمينية ، التقدمية وكذا  الرجعية لتصبح هجينة ...

ومن نتائج تمييع العمل السياسي الوطني  وتقزيم دور الأحزاب و البلقنة  الحزبية والنقابية  هجرة العديد من السياسيين والسياسيات  من  عوالم المشاركة  في العمل السياسي والنقابي إما بمقاطعتها كلها ، أو بالتوجه للعمل المجتمعي المدني والإنساني  في  جميع المجالات التي تسعى للتنمية المستدامة معرفيا  وثقافيا وإنسانيا ونضاليا ،وإما بالهجرة  إلى زوايا النفس والعقل والتأمل الروحي والفلسفي كما فعل بعض الصوفية ..

إننا ونحن في بداية الصيف الذي هو موسم عودة مئات الآلاف من المهاجرين لزياة وطنهم  والذين هاجروا للبحث عن لقمة عيش بعد أن تعذر عليهم الأمر بوطنهم ، فكانوا سندا كبيرا من المهجر لوطنهم وأسرهم وبلدانهم حيث ساهموا بشكل كبير في بناء قراهم وبواديهم ، وفي إطلاق تنمية اقتصادية واجتماعية، وفي بناء  وتوفير وتطوير وإصلاح  البنيات التحتية ، وكانوا وراء إبرام  أولى  الشراكات ، فأنجزت وشقت وعبدت طرق  وربطت قرى بالكهرباء والهاتف النقال والماء الشروب، بل وبنيت  مدارس ومراكز صحية ومساجد ، وفكت العزلة عن العديد من مناطقهم   ، وتجدد وتوسع العمران بالبوادي ، وتحسنت ظروف عيش  من تبقى من السكان بفضل عائدات وتحويلات وبرامج المهاجرين وشركائهم داخل الوطن  ..إلخ

ولابد أن نؤكد على أن المهاجرين والمهاجرات من البوادي إلى المدن ساهموا  كذلك إلى جانب إخوانهم وأخواتهم  بالخارج في تمويل ودعم  العديد من البرامج والمشاريع الاستثمارية الصغرى والمتوسطة وحتى الكبيرة  ..

لهذا نقول انطلاقا من الواقع الذي عشناه أنه لولا المهاجرين لبقيت مناطق عديدة بالوطن متخلفة على جميع الأصعدة ..

فإذا كان المهاجرون سابقا يتعرضون لمشاكل وإكاهات  متعددة بسبب الغربة ويتعرضون لمضايقات وأحيانا لاستهزاء واستخفاف وحتى إبتزاز  عند عودتهم إلى الوطن ، وإطلاق تسميات ونعوت تحقيرية عليهم،  وتتعرض أحيانا مصالح البعض منهم للضرر والضياع  بسبب تعقد المساطر والبيروقراطية و..؟؟ .. فإنهم وخلال العقود الأخيرة يسجلون  تغييرات في بعض السياسات والتشريعات وطرق الاستقبال والتعامل ، التي مازالت في حاجة  إلى المزيد من  الاهتمام و العناية والحماية ،  وتوفير ظروف مشجعة لاستقطاب استثماراتهم ، وتثمين دورهم التنموي الكبير الذي يشكل رافدا قويا للتمويلات بالعملة الصعبة والدعم المباشر ، ولتشجيع إسهامهم  القوي   في الاستقرار والمحافظة على بقاء نسب من الساكنة بالبوادي ، وتخفيف الهجرة إلى المدن التي تكون تكلفتها مرتفعة على العالم القروي وحتى الحضري ...

إن العمل الديبلوماسي والحكومي يجب أن يواكب بقوة أوضاع المهاجرين في كل تفاصيلها، وان يكون حضور الدولة إنسانيا واجتماعيا وتضامنيا،  ومؤازرة سياسية وحقوقية لهم، ومواكبة دائمة تنسق  لفائدة حماية وخدمة  مصالح المهاجرين ببلدان الهجرة  من جهة ، وتيسير علاقاتهم بأسرهم ومناطقهم بالوطن .. مع ما يتطلبه الأمر من تأطير تربوي وتعليمي للغتين الأمازيغية والعربية والثقافة والتراث الوطني والتاريخ ...

إن كل أسباب ودوافع الهجرة وعلى رأسها التنمية والتشغيل والاستقرار ..جعلت المغرب يتحول إلى جهة متسامحة لاستقبال أفواج المهاجرين من  دول الجنوب بإفريقيا وحتى من الذين لم يجدوا ترحيبا بدول الجوار لينضموا إلى كل المتحينين للفرص من المغاربة والمغربيات  للبحث عن وسيلة لدخول  أوروبا والاستقرار بها ،  وهذه الوضعية أصبحت ظاهرة  يلاحظها الجميع في أغلب المدن وبالمناطق الشمالية  .. تحتاج إلى انتباه واهتمام جدي  يهم بنية الإستقبال والإدماج حيث أن غالبيتهم يعيشون في ظروف قد تتسبب في مشاكل غير متوقعة وقد تكون سلبياتها وتأثيراتها غير محمودة ولا مقبولة ..

إن دقة المرحلة وتعقيدات المستقبل تتطلب إقرار رؤية واستراتيجة بديلة قوامها تنمية ونهضة اقتصادية واجتماعية، وديمقراطية ، واستثمار وتوزيع عادل للثروات والخيرات والكفاءات والقدرات على كل ساكنة المغرب ومناطقهم حواضر وقرى ، والقطع مع  المبادرات التجميلية والانتقائية والانتقالية والمؤقتة ..

إن الهجرة ليست كلها سلبية بل تعتبر ضرورية لتجدد وتطور المجتمعات الإنسانية، لكنها تحتاج إلى فلسفة وسياسة تتعامل معها كمعطى لا يمكن تعطيله ومنعه ..بل أن تتعاون كل دول العالم لتجعلها متبادلة وفي جميع الاتجاهات  من الجنوب إلى الشمال، ومن الشمال إلى الجنوب،  وشرقا وغربا  لتحقيق تنمية مشتركة تضمن تطورا وازدهارا  مطردا، وتدعم اكتشاف وتأهيل الكفاءات والطاقات البشرية الخلاقة وإدماجها في التنمية ، وليكون الرأسمال والثروة في خدمة الإنسانية، ولتطوير مفهوم الوطن بخلق تكتلات واتحادات بقوانين واقتصاد مشترك وقوي.

..إن  الدول المغاربية بشمال إفريقيا  والتي تمتلك من المقومات والمؤهلات والثروات والعلماء والخبراء والمبدعين ما يجعلها تصبح  في قوة الإتحاد الأوروبي وأكثر لتتحول من دول عبور إلى دول تنمية ورائدة لنهضة واستقرا دول الجنوب  والقارة الإفريقية ...